تتعدد مفاهيم الاغتراب ويتطرق إلى الذهن الكثير من التعريفات والمعاني بمجرد ذكر لفظ الاغتراب، فيشيع لدى العوام أن الاغتراب هو السفر أي ابتعاد الشخص مكانيا عن وطنه وأهله او أن الاغتراب هو الشعور بالوحدة، ولكن المقصود من الاغتراب في هذه المقالة هو الاغتراب النفسي عن العالم والمجتمع والأفراد والذات رغم وجود الفرد مكانيا وزمانيا في الوسط المحيط بين أهله وأصحابه.
الاغتراب قد يكون بمثابة انصهار الفرد داخل بوتقة من العزلة عن العالم والمجتمع والذات نفسها، إلى الحد الذي يصبح فيه الإنسان غير قادر على معرفة نفسه وإدراك ما حوله فهو يميز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي ولكنه لا يعيه، ولا يستوعبه استيعابا كاملا، ومن هنا ينبثق العديد من الأسئلة المتشعبة التي لا يمكن فصل أي عنصر من عناصرها بمعزل عن العناصر الأخرى، هل الاغتراب هي عملية تدريجية تراتبية بمعنى أن الفرد يبدأ يشعر بحالة الاغتراب تدريجيا من مفهوم واسع الى مفهوم اضيق، بمعنى الانتقال من الشعور بالاغتراب عن العالم ككل ثم إلى المجتمع ثم الشعور بالاغتراب عن الذات نفسها؟ وهل ينتج الاغتراب من المجتمع؟ وهل المغترب دائما ما يكون في علاقة عدائية مع المجتمع المغترب عنه؟ بل هل قد يكون المغترب ايضًا في حالة صراع مع ذاته الواعية وذاته اللاواعية؟
من منظور خاص، الاغتراب ليست عملية تدريجية تراتبية خالصة، فالمغترب عن العالم، قد نتج اغترابه من شعوره بعدم أهمية هذا العالم حيث يرى أنه لا غاية ولا هدف لهذا العالم الفسيح، فيضيق عليه العالم بما رحب، اما المغترب عن مجتمعه فهو من يكون قد عاش في عزلة ثقافية وتبنى معاييرا ومبادئا مخالفة لمعايير المجتمع الذي قد عاش فيه او تعرض للظلم من مجتمعه فجعله على علاقة غير ودية معه، كما ان حرمان الفرد من حقوقه وعجزه عن تحقيق أهدافه من خلال المجتمع يشعره بالغربة التامة والانفصال عنه، اما الاغتراب عن الذات فقد يكون بسبب فكرة العجز عن التحكم في القدر وبالتالي يفقد الانسان طموحه واحلامه تدريجيا ويبهت، وبالتالي قد يمر الفرد بحالات الاغتراب الثلاث هذه وفق تسلسل منطقي وقد يمر بإحداهما دون الأخرى وقد يمر باثنين وقد يمر بهم جميعا ولكن ليس وفقا لهذا الترتيب على وجه التحديد، فقد يمر الانسان بالاغتراب عن الذات أولاً لشعوره بالعجز عن تقرير مصيره وقدره وأن هناك ذات أقوى منه ثم يغترب عن العالم لشعوره بأن العالم رغم اتساعه ليس له أي معنى أو جدوى.
اما فيما يتعلق بحالة اذا كان الاغتراب ينتج من المجتمع، ففي حقيقة الأمر ينتج الاغتراب في كثير من الحالات بسبب المجتمع ولكنه ليس بالضرورة العامل الوحيد لذلك، ولكن دائما ما يتم اقران عملية الاغتراب بالمجتمع، وذلك لأن غالبا ما تكون المجتمعات ظالمة لأفرادها من وجهة نظرهم، وفي الوقت الراهن ووفقا للتسلسل التاريخي بداية من القرن التاسع عشر والثورة الصناعية وعملية التحول من ميكنة الانسان ثم استبداله بالآلة أصبح الانسان يشعر بالاغتراب في عمله اكثر من أي مكان اخر، ومع سلب الحقوق وانعدام الحريات اصبح الانسان مقيدا ولا يجد منفذًا للتعبير عن حالة الغضب التي تعتري صدره واصبح يشعر انه يعمل كالروبوت، وعلى ذكر العمل فإن الماركسية تشير إلى أن العمال قد اصبحوا غير قادرين على شراء ما تصنعه أيديهم وهم ينتجون منتجات غريبة عنهم في حالة من الاستغلال وفي حالة من التعقيدات المميكنة التي تفقد العلاقات والروابط الاجتماعية مكانتها، فيصبح كالمسخ وهو تصور حي مثله الاديب العالمي كافكا في رواية المسخ عندما استيقظ بطل الرواية جريجور سامسا من نومه فوجه نفسه قد تحول إلى حشرة، وهو ما يشير الى التشوه الذي حدث لبطل الرواية نتيجة انغماسه في طاحونة العمل لتسديد ديون اسرته في عمل مغترب عنه، وبالتالي فإن المغترب مجتمعيا يكون على علاقة عدائية مع مجتمعه ولكن ليس بالضرورة كما تذكر الماركسية باتخاذ اجراء ثوري او عنيف، فقد يكتفي الفرد بتشييد اسوار لمجتمعه الخيالي الخاص ليسجن نفسه فيه غير مدرك أنه يهرب من سجن إلى سجن آخر شيده بيديه ولكنه على الأقل كانت له حرية التشييد.
ومن هنا ننطلق للنقطة الأخيرة، ألا وهي حالات الصراع التي يشيدها الإنسان بنفسه داخل عقله الباطن، فيصبح الانسان في صراع بين مواكبة الحياة المفروضة عليه وبين تلك التي شيدها في عقله، يصبح في صراع بين ضرورة الاستمرارية وبين عبثية السعي، عندما يشعر بعدم جدوى الحياة وعدم قدرته على تحديد مصيره يفقد طموحاته وغاياته من الحياة، فيعيش مفرغ الروح، او بعبارة أخرى يعيش جسدًا بلا روح.
نلاحظ ان حالة الاغتراب في وقتنا الراهن باتت ظاهرة واسعة الانتشار ولم تعد شيئًا غير مألوف ولا سيما بعد هذا التطور التكنولوجي الرهيب الذي أدى إلى حالة من التشرذم والعزلة، قد يكون الاغتراب قاصرًا على سلوك الفرد فيما لا يضر المجتمع ككل، ولكن قد يكون الانحراف عن المعايير المجتمعية من قبل بعض الافراد بمثابة سلوكًا عدائيًا قد يؤدي إلى تفكك الانضباط الاجتماعي وفقًا لدوركايم، وقد يعاني الشخص المغترب من حالات الاكتئاب الحادة عندما يصطدم بالواقع المفروض عليه، ومن الجدير بالذكر ان حالات الاغتراب منتشرة في الدول السلطوية كما هو الحال أيضا في الدول الديموقراطية والشبه ديموقراطية، حيث أنه لا توجد ديموقراطية حقيقية من وجهة نظر فلسفية خالصة، فحقوق الافراد المهدورة تختلف من مجتمع إلى آخر، وكذلك ينطبق الوضع على المعايير، المثل والقيم والمبادئ الكفيلة بخلق حالة من الاكتئاب والتشرذم والعزلة والاغتراب.