in

الحرية القبيحة

الحرية القبيحة

عِندي أنّ الحرية أعظم ما يمكن للإنسان امتلاكه، ومن دونها ما كانت عديد الحضارات، وليس من شكٍ في أنّ وجود الحرية يؤدي مباشرة إلى تقدُّم البلاد، كما يُفضي غيابُها إلى تخلُّفٍ وانهيارٍ للحضارات، ومِن خَطَلِ الرأيِّ أن يعتقد واحدٌ أنّ تدنِّياً اجتماعياً أخلاقياً أو اقتصادياً يرجع فقط إلى قراراتِ ذوي القرار، وإنما على كلّ مُفكّرٍ في أزمةٍ أن يضع الحريةَ في دائرة التفكير، أو إن شئتَ قل: يضع تفكيرَه في دائرة الحرية.

لكنّني -خلافاً لما سبق- لا أنتوي الحديث عن شيءٍ أو أشياءَ تتعلق بأفضال الحرية وتوابعها، وإنّما أردت أن أبرز جانباً منها كلما صادفته في يومي كِدتُ أتمنى حياةً بلا حرية. جانبٌ ليس فقط مسيئاً إلى ذات الحرية، بل يعملُ أيضاً على خدمة التطرُّف ونموه، وهُديتُ في الأخير أن أدعوَ هذا الجانبَ بالحرية القبيحة.

والحرية المقصودة -أي القبيحة- هي كلُّ رأيٍ يُقالُ دون معرفةٍ في أمرٍ يحتاج إلى حدٍ أدنى من المعرفةِ كي يُقال فيه، فإنّك إن تُدقق في عديد الآراء ممّا هي منتشرةٌ على مختلف وسائل التواصلِ والإعلام فسوف تتحقق من حريتي القبيحة تلك، كأنْ تجد بعض الآراء العقائدية أو الفقهية ممّن عِلمهم عن العقيدة أو الفقه ضئيلٌ قياساً لما يبدون فيه الرأي أو يجرون عنه النقاش، أو حتى إبداء الرأي عن حدثٍ ما رائجٍ دون التحقُّق من تفاصيله وملابساته، وفي الحالتين -عظم الأمرُ أو هان- كان يجب على من ظنّ نفسه حراً أن يمتلك حداً أدنى من المعرفة يتناسب مع ما يتحدث عنه، ومن ثمّ يُخرج علينا آراءه خروجاً ملازماً لبعض تلك المعرفة.

وقد يراني البعض متطرفاً في رؤيتي، إذ كيف يُعقل أن كلّ مُتحدِّث عن أمرٍ ما يجب عليه الاطّلاعُ والتثقيف أولا، و يُعتقد في ذلك أنّني أقف أمام حرية التعبير والرأي، وهذا تجنٍ لا يُصدره إلا  قاصرو الفهم، أنا لم أقل لا تُبدِ رأيك في كذا وكذا، وإنّما قلت إنّ التناسب بين الشيء المُتحدَّث عنه وما يحتاجه هذا الشيء من حدٍ أدنى للمعرفة هو المهم، وقولي هذا يشمل إبداء الرأي عن عظيمِ الأمور كالقضايا العقائدية والسياسية مثلا، كما يشمل أيضاً تافهِ الأمور كالقضايا الترفيهية والرياضية، فإنّك لا يجب أن تقول إنّك لا تتفق مع ما نُقِل من حديثٍ عن الرسول في جزئية كذا وكذا وأنت لا تملك حداً أدنى من المعرفة بعلوم الحديث وأسسها وتسلسلها واجتهادات السابقين في تبيان ما وراءها من كذا وكذا.

وعلى النقيض تماماً يحق لك أن تقول إنّ المدرب اليوم لم يلعب بالخطة المناسبة ولم يختر اللاعبين المناسبين لأداء الأفكار الهجومية مثلا، وكان عليه أن يهاجم أنصاف المساحات بين الخطوط، وإنْ كان ما سبق رأياً سريعاً جاء بعد انتهاء المباراة بثوانٍ أو حتى أثناءها، لأن رأيك في كرة القدم يُقبل فيه عدم معرفتك الواسعة بخفايا اللعبة، وعلى ذلك نجد المشجعين وكثير المحللين يصدرون آراءهم سريعة لحظية دون معرفة أو بحث كافٍ عن أغلب ما يتحدثون عنه، وإن لوحظ قليلٌ من المحللين يدعون إلى البحث والمعرفة قبل الحديث حتى عن كرة القدم، وإلى التوقُّف عن إصدار الأحكام السريعة والآراء المتطرفة اللحظية، داعين إلى مزج العلوم بكرة القدم، كعلم الإحصاء وعلوم النفس وغيرها، ويُحسب لهم ذلك، وأرى أنّ الرائدَ في هذا المسلَك هو اليوتيوبر المصري “لؤي فوزي” ويُشكر على دعوته المستمرة إلى الاطّلاع أولاً قبل الحكم.

إذاً فلابدّ أن يُعاد النظر في أبعاد حرية إبداء الآراء، ولْتكن هذه الدعوةُ دعوةً إلى الاطّلاع المناسب قبل إبداء الآراء وإلا فالسكوت خير، ولا تُغرينّك نتائج التطرّف الذي يُسرع من عملية انتشار الرأي، أذكر أنّني أردت إبداء بعض الآراء عن القضية الفلسطينية والحرب الدائرة -أنهاها الله بقدرته- بين الفلسطينيين ومحتلّيهم، أمسكت هاتفي وأوشكتُ أن أكتبَ رأيي -والحديث هنا عن آراء فكرية وليس الدعم المجرد- في بعض الأمور، ثم أوقفت فألغيت الكتابة لأنّني أدركت كوني على جهلٍ شديدٍ بتاريخ هذه القضية وأبعادها السياسية والعسكرية، فآثرت السكوت والاطّلاع أولا، وحين قرأت ما قاله لاعب كرة القدم المصري “أحمد حسام ميدو” عن حماس وعن القضية وهو أيضا على جهل شديد بعديد الأبعاد، تأكدت حينها من قبح الحرية، وحمدت الله على سكوتي في جهلي، وتلك أمثلةٌ قليلةٌ ممّا نقابله -مُرغَمين أحيانا- في حياتنا اليومية.

ولهذا ولأكثرَ من هذا، أرى الخير كثيراً في السكوت، قليلاً في إبداء الآراء، كثيراً في الاطّلاع، قليلاً في عدم المعرفة، هذا وأدعو كل راءٍ في وسائل التواصل والإعلام أن يُقدِّم مع رأيه دلائل فكرية توحي أنّ هذا القولَ يستحقُ احتراماً وتقديرا، وعلى المُتصفّحين والمُستمِعين أن يعلموا أنْ ليس كلُّ قولٍ يُحترم، وأنّ الوصوليةَ دعت الرائين إلى التطرّف والسطحية، وهذا ممّا بلانا الله به في عصرٍ  الهدف فيه الانتشار، وليس الذي أطلبه -أن أدعو القائل إلى التفكُّر  والاطّلاع قبل القول-  بالشيء اليسير الهيّن تنفيذُه، لذلك أنقل دعوتي من القائلين إلى المقول لهم ألّا يكونوا جزءاً من نشر الآراء سريعة الحكم، الآراء التي لا تتلاءم ثقافة قائليها والموضوع ذاتَه.

وما يَزيدُ الحرية القبيحة خطراً هو اقترانها بقبحٍ فكريٍ آخر هو التعميم، ولك أن تدعو  هذا بالحرية القبيحة جداً، أو الحرية شديدة القبح، وفيها يُعمّمُ الفرد في أحكامه التي يطلقها على أمرٍ ما، وهنا لك أن تتخيل حكماً قيل عن غير معرفةٍ مناسبة وفيه تعميم، هل من أسوأَ من ذلك؟ ولستُ هنا في موضع الحديث عن مخاطر التعميم، ولكنّني فقط أردت أن أُشاركك بعضاً ممّا يقابلني كل يوم في مختلف وسائل التواصل، كأنْ يقولَ قائلٌ إن كل التراث سيء، فإذا افترضنا جهله بغالب التراث من الأساس فقد وقع هنا فيما أسميناه بالحرية القبيحة وزاده بالتعميم، أو كأنْ يقول محللٌ لمباريات كرة القدم إنّ كل الأرقام ليست مهمة وبلا دلالة، أو إن كل من لم يلعبوا كرة القدم ليسوا مؤهلين لكذا وكذا، ما أقبح الحرية!

إن الحديث عن قيمة الحرية وأهميتها يبدو في ظاهره حديثاً مرفوضاً، إذ أهمية الحرية من البداهة، وكم من دماءٍ أُريقت من أجل الحرية! بل قد يجد البعض في حديثي تقليلاً من شأنها وأنا لم أقصد ذلك من قريبٍ أو بعيد، والجميع حرٌ فيما يقول، لكن احرص دائماً على ألّا تكون حريتُك قائمةً على جهلٍ وتعميم، أو إن شئت قل: ألّا تكونَ حريتُك حريةً قبيحة.

Avatar for مصطفى محمد

كُتب بواسطة مصطفى محمد

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for مصطفى محمد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0