in

الفلسفة العبثية ـ نشأتها وتطورها في المسرح والأدب

الفلسفة العبثية الجزء الأول

إن التطور الذي حدث للإنسان جعل منه كائنا أكثر تعقيدا اليوم، فقد بدأ هذا الكائن الذي كانت أولى أهدافه أن يظل على قيد الحياة أكثر مدة ممكنة بطرح أسئلة وجودية طرحت ومازالت مطروحة للنقاش في أوساط الفلسفة والأدب، أسئلة عن ماهية الوجود، الهدف من الحياة، السعادة، الموت، الإرادة الحرة، الآلهة … وغيرها. لا بد أن نتفق على أن هذه الأسئلة ساهمت بشكل كبير في تطور الأعمال الأدبية إلى ماهي عليه اليوم، بل وساهمت أيضا في تطور الحضارة بتطور العلوم والتكنلوجيا، وتغيير نظرتنا إلى الأمور في كل مرة. لقد تم الإجابة على العديد من هذه الأسئلة، بداية من الفلسفة ومرورا عبر آلاف الأعمال الأدبية ثم نهاية بالدراسات والأبحاث العلمية التي بائت تفسر الأمور بشكل أكثر واقعية من قبل.

عندما نتحدث عن الأسئلة، فنحن نقصد الفلسفة بطبيعة الحال، فقد كان لهذه الأخيرة الأساس القوي التي بنيت عليه الحضارة البشرية، ولو اعتبرنا الفلسفة كإنسان لفازت بأغلى الجوائز كأفضل مؤثرة أدبية مرت عبر التاريخ.

انقسمت الفلسفة بعد ذلك إلى عدة أقسام بين مؤيدين ومعارضين لأفكار معينة، وظهرت مدارس فلسفية جديدة تتبنى أفكارا جديدة مختلفة عن سابقتها، فمثلا المذهب العقلي الذي يترأسه ديكارت يقول أن العقل هو مصدر المعرفة، بينما المذهب التجريبي يقول أن التجربة هي أساس كل معارفنا.

إن هذه الإختلافات بين المذاهب الفلسفية جعل من الأفكار مطروحة للنقاش والنقد، وهو ما ساهم في تطور هذه الأفكار وفتح مجال جديد لأفكار جديدة.

إن هذا التطور نلحظه أيضا في المذاهب الأدبية التي مرت عبر التاريخ، فالأعمال الأدبية التي كتبت في الحقبة الكلاسيكية تختلف تماما عن الأعمال الأدبية التي كتبت في الحقبة الرومانتيكية وغيرها، وقد أثرت كل هذه الحقب ليس فقط على الأدب بشكل عام وإنما أيضا على الفن، الموسيقى والمسرح ثم على المجتمع ككل وتطور مختلف مجالاته. ولابد القول أيضا أن الأحداث التي تطرأ في المجتمع قد تؤثر هي الأخرى في ظهور أعمال أدبية فريدة من نوعها وبأفكار جديدة، فمثلا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية قام ألبير كامو بإحياء الفلسفة العبثية في أعماله الأدبية والمسرحية، والتي أظهر فيها مدى عبثية هذه الحياة ولامبلاتها بالإنسان.

لقد كان للعديد من الفلاسفة والأدباء دورا مهما في تغيير العقل البشري إلى ما هو عليه اليوم، وقد أحدثت العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية ثورات فكرية غيرت منحى السفينة التي تتجه إليها العديد من المجتمعات، فلو أخذنا على سبيل المثال الفيلسوف والعالم الشهير تشارلز دارون وعمله “أصل الأنواع” فهو يعتبر بمتابة كتاب غير نظرتنا عن أنفسنا وعن الحياة، وقد ساهم بشكل كبير في ازدهار علم الأحياء والتطور الذي وصل إليه اليوم.

كان ألبير كامو، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، واحدا من بين هؤلاء المؤثرين الأدبيين والفلاسفة الذين غيروا العديد من الأفكار حول الحياة، الموت، والوجود، وقد اشتهر أول مرة عند نشره لرواية “الغريب” والتي حققت نجاحا هائلا في تلك الحقبة، ومازالت هذه الرواية تحتل المراكز الأولى كأفضل الروايات تأثيرا في العالم. عبّر ألبير كامو عن “الفلسفة العبثية” في كتاب “أسطورة سيزيف” والذي يعتبر العمل الأساسي لهذه الفلسفة. جاءت هذه الفلسفة بعد فلسفتي الوجودية والعدمية، وتختلف عنهما في العديد من النقاط أهمها فكرة “معنى الحياة“، وهو السؤال الذي لطالما طرح في أوساط الفلسفة وتم مناقشته من عدة زوايا بين ما يقول أن للحياة معنى ومن يقول عكس ذلك، وبين ما يربط هذا المعنى بشيء آخر غير الحياة كالأديان أو الآلهة وبين ما يربطها بالمشاعر كالسعادة والحزن.

إن السعادة من بين الأفكار التي نوقشت فلسفيا وكدى في العديد من الأعمال الأدبية، فالسعادة هي المحور الأساسي الذي يسعى إليه كل إنسان، وهي الفكرة التي قد تختلف ليس فقط من فيسلوف إلى آخر بل من شخص إلى آخر، فمثلا قد يربط البعض السعادة بالمال، بينما يربطها آخرون بالصحة. لكن من بين كل هذه الأفكار، كيف يمكن أن توجد السعادة في ظل عبثية الحياة وانعدام معناها؟ أو بصيغة أخرى، كيف يمكن للإنسان أن يحظى بالسعادة إذا كانت كل حياته بلا معنى إطلاقا؟




مفهوم العبثية

يشير مفهوم العبثية في الفلسفة إلى صراع الإنسان في إيجاد معنى للحياة وعدم قدرته على إيجاد هذا المعنى. وانطلاقا من هذا المفهوم، فإن كلمة “العبث” لا تعني “مستحيل منطقيا”، بل تعني “مستحيل للإنسان”. أي بعبارة أخرى، فإن مسألة عبثية الحياة لا تعود بالضرورة إلى البشر أو الحياة نفسها، ولكنها تعود إلى الصراع والتناقض الدائم الذي يحصل بينهما.

ومن ناحية أخرى، تعتبر الفلسفة العبثية مدرسة فكرية تؤمن بأن جهود الإنسان وصراعه الدائم في محاولة إيجاد معنى للحياة ستفشل في نهاية المطاف. ويجب أن يذكر أيضا أن العبثية ترتبط بالوجودية والعدمية، وهما من أهم المذاهب الفلسفية التي استكشفت وناقشت مسألة الوجود.

بدأت هذه الفلسفة في القرن التاسع عشر مع الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد، والذي اختار مواجة أزمة الإنسان الوجودية من خلال ابتكار وتطوير فلسفته الوجودية التي اشتهر بها، بل ويعتبر أنه الأب الروحي للفلسفة الوجودية. أما من ناحية الفلسفة العبثية، فقد ولدت هذه الأخيرة كنظام ديني إيماني في الحركة الوجودية الأوروبية أنذاك، كما أنها ظهرت من جديد كشكل من أشكال إعادة إحياة لهذه الفلسفة مع الفيلسوف ألبير كامو، والذي قام بتجديد الفلسفة العبثية عبر رفضه لبعض المفاهيم من الخط الفلسفي، حيث قام بنشر كتابه الشهير “أسطورة سيزيف”، والذي يعتبر الآن أول مصدر لهذه الفلسفة.

وبالإضافة إلى كل هذا، فقد لعبت عدة عوامل في ظهور هذه الفلسفة مجددا، وتطويرها بشكل أكثر واقعيا من قبل، ومن العوامل الأساسية، نذكر الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي لعبتا دورا أساسيا ليس فقط من الناحية الفلسفية، وإنما في إحياء الفلسفة العبثية في الأعمال الأدبية والمسرحية.

الفرق بين الوجودية والعدمية والعبثية

تختلف هذه المذاهب الفلسفية الثلاثة في عدة نقاط رغم أنها تتشابه في العديد من الأفكار الأخرى. بعد أن تعرفنا عن مفهوم كل من هذه الفلسفات، سنقوم الآن بتوضيح الفروقات البسيطة بين كل منها، وسنركز بالخصوص على موضوع معنى الحياة الذي هو موضوعنا.

تتفق هذه المذاهب الثلاث أن معنى الحياة غير موجود، أي أن الحياة ليس لها أي معنى، ولكن هذا الاتفاق سرعان ما يختلف في فكرة تقبل هذه الحقيقة. فالوجودية تقول أن معنى الحياة هو ما يصنعه الشخص بنفسه، أي أن الإنسان هو من يجب أن يجد هذا المعنى ويعيش حياته اتباعا له، بينما العدمية تقول أن حتى هذا المعنى الذي سيحدده الشخص لحياته هو بحذ ذاته بلا معنى، أي أنها ترفض فكرة وجود معنى للحياة وتحديد معنى شخصي أيضا. أما الفلسفة العبثية فتقول أن المشكلة ليست فقط في معنى الحياة، وإنما في صراع الإنسان للبحث عن هذا المعنى وعدم إيجاده في المقابل.

تقول الفلسفة العبثية، كما جاءت في كتاب أسطورة سيزيف، أن مواجهة العبث تكمن في 3 خيارات،

1. الإنتحار الفيزيائي وهو ما رفضه كل من ألبير كامو وسورين كيجارد، إذا قالا أن الإنتحار هو أكثر عبثية من العبث نفسه.

2. الإنتحار الفلسفي وهو أن يجد الشخص معنى لحياته انطلاقا من إيمانه بدين ما أو بقوة خارقة خارج الكون، بحيث تضفي لحياته معنى وتطمئنه من فكرة الصراع للبحث عن هذا المعنى. أما لماذا اعتبره ألبير كامو انتحارا فلسفيا فأولا لأنه مجرد إيمان، وهو هروب من حقيقة العبث وليس مواجهته.

3. تقبل العبث وهو الاختيار المفضل في هذه الفلسفة، بحيث أن تقبل العبث يعني العيش بحرية وبتمرد عن عبثية هذه الحياة، ويرى ألبير كامو، كما سنوضح في الفقرات القادمة، أن هذا الاختيار هو الأفضل لعيش حياة سعيدة.




المسرح العبثي

الفلسفة العبثية في المسرح

خلفت الحرب العالمية ورائها 70 مليون ضحية، إلى جانب فشل الأنظمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتوظيف التكنولوجيا لهلاك البشر وشعور الإنسان بالاغتراب وغيرها من الأضرار.

بالإضافة إلى التطور الذي شهدته بعض الدول في صناعة الأسلحة الفتاكة والمدمرة كالأسلحة النووية التي استخدمتها أمريكا أنذاك ضد اليابان، والتي مات بسببها مئات الآلاف من المدنيين في رمشة عين.

ساعدت هذه الأحداث على خلق فكر جديد ظهر في أوروبا وهو الفكر الوجودي والعبثي، إذ عبّر بعض المفكرين أن الحياة في ظل الأحداث التي تحدث (والتي حدثت في تلك اللحظة) هي عبث، لا طائل من ورائها ولا جدوى منها، وأن الحل الوحيد هو الإنتحار.

لم تكن الحرب العالمية الثانية السبب الوحيد في فضل ظهور هذا الفكر الجديد، وإنما ساهمت عدة عوامل أخرى على المستوى الاقتصادي مثلا، حيث أثبتت الأنظمة الاقتصادية فشلها الرأسمالية منها والاشتراكية، إذ خلقت نظام طبقي يعتمد على مبدأ القوي يأكل الضعيف ووجود الفقر … الخ.

اشتهرت حينها الفلسفة العبثية فيما سُمِّيَ بالمسرح العبثي، ويشير إلى الأعمال المسرحية لمجموعة من الدراماتيين في أوروبا الغربية وأمريكا، حيث أنتجوا العديد من المسرحيات في الخمسينيات ومطلع الستينات.

وقد تم صياغة مصطلح “المسرح العبثي” من قبل الناقد الأدبي مارتن إسلين، الذي حدد سمات جديدة من أسلوب الدراما والتي تتميز بتجاهل الاتفاقيات المسرحية مع الجمهور وإحباط توقعاته، إلى جانب عدم إظهار الزمن الذي تحدث فيه أحداث المسرحية. أما من ناحية الشخصيات فهي غالبا ما تكون مجهولة الاسم وتكون مشوشة يغلبها طابع الاغتراب والعزلة.

أهم سمات المسرح العبثي:

– تغيير الثوابت: سواء على مستوى الشخصية أو البناء الدرامي أو الحوار وغيره.

– الشخصيات مضطربة مشوشة التفكير، وتعاني حالة من الاغتراب والعزلة.

– الحوار فاقد للمعنى وغير منطقي، وكان يتميز بالتكرار تعبيرا عن الملل الذي وصل له الإنسان في هذا العصر.

البناء الدرامي يبدأ من الذروة، ولا وجود لتسلسل منطقي للأحداث من أجل إحداث صدمة للقارئ (أو المتفرج)، صدمة شبيهة بالصدمة فعليا في الواقع الخارجي.

أما أحداث المسرحية فهي خارجة عن النطاق العقلاني وقد ترتبط بالسريالية (Surrealism).

في كثير من الأحيان، قد تبدو الحوارات والشخصيات بلا معنى تماما لدى الجمهور، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا اللامعنى يستكشف موضوعات العزلة والوحدة، وفشل الأفراد في التواصل الاجتماعي مع الآخرين، بالإضافة طبعا إلى عدم جدوى الحياة والموت وعبثيتهما.

يعتبر صامويل بيكيت، يوجين إيونيسكون، جان جينيت، آرثر أداموف، هارولد بينتر، وإدوارد ألبي من أشهر الكتاب للمسرح العبثي إضافة إلى كتاب آخرين أقل شهرة.

لا بد القول أيضا أن المدارس المسرحية بما فيها المدرسة العبثية كان لها الدور الأبرز والأكبر في تحديد أطر الكتابة الأدبية على مر تاريخ الأدب العالمي.

ظلت بعدها هذه الأنواع الجديدة من المسرحيات تنتشر على طول السنين بين 1950 و 1960، وقد تعوّد الجمهور على هذه المسرحيات التي كانت في البداية تظهر على أنها مسرحيات لا معنى لها، إلى أن تخلى أغلبية الكتاب عن كتابة هذا النوع من المسرح بعد سنة 1960، وقد اعتبرت هذه المسرحيات فيما بعد كلاسيكيات للدراما الأوروبية والأمريكية.

ومن أشهر أعمال المسرح العبثي، مسرحية “في انتظار جودوت“.




الفلسفة العبثية في الأدب

الفلسفة العبثية في الأدب

وقد ساهم المسرح العبثي في تحديد أطر الكتابة الأدبية العبثية، فقد تم التعبير عن الفلسفة العبثية في الروايات والقصائد، إذ تكون فيها الشخصيات عبثية وفي أوضاع لا يستطيعون فيها إيجاد معنى وهدف لحياتهم، وغالبا ما تكون أحداث الرواية عبثية هي الأخرى، حيث تكون بلا معنى ولا طائل منها.

ظهر هذا النوع الجديد من الأدب، الأدب العبثي، من الأدب الحداثي في نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العشرين، وقد تأثر هذا النوع الجديد من الأدب ببعض المذاهب والحركات الفلسفية كالوجودية والعدمية والدادئية والحركية السريالية.

ومن ناحية أسلوب الكتابة، فإنه يعتمد على استخدام الكوميديا السوداء والسخرية، بالإضافة إلى تحقير المنطق واستخدام “اللامعنى” كأسلوب تعبير عن أحداث وأوضاع القصة.

وعلى الرغم من تميز هذا النوع الأدبي الجديد على روح الدعابة واللاعقلانية، إلا أن السمة المميزة فيه هي دراسة السلوك الإنساني تحت ظروف قد تبدو واقعية، إلا أنها عبثية وخالية من أي هدف أو معنى.

أما فيما يتعلق بالشخصيات، فكما في المسرح العبثي، تتسم هي الأخرى بنوع من الغموض، إذ لا يحكم الأدب العبثي على هذه الشخصيات، ويترك هذه المهمة للقرائ. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من الأدب لا يتبع بالضرورة البناء الأدبي التقليدي من حيث الحبكة.

وتعتبر روايات فرانز كافكا من الأدب العبثي، حسب قول ألبير كامو نفسه.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0