in

الله في تمثلاتنا

عادل كوننار - الله في تمثلاتنا

منذ بدء الخليقة، ابتدأت خطوات الإنسان الأولى في البحث عن سر هذا الكون الفسيح بغية محاولة تفسيره، و من ثم لم يكن هنالك بد من التفكير في خالقٍ قد شكل منذ الوهلة الأولى مكونا أساسيا للتجربة الإنسانية تجاه هذا العالم الزاخر بالرائع و المجهول الخفي في نفس الٱن.في واقع الأمر ظهر الإنسان العاقل (هوموسابيانس) كإنسان متدين أو بعبارة أخرى، كحيوان روحاني كان و ما يزال يتلمس إيجاد معنى و قيمة في الحياة.

في المستهل، وحتى لا يذهب ظن القارئ بعيدا تجب الإشارة إلى أن قضيتنا في هذا المقال لن تكون مناقشة مسألة وجود الله من عدمه، و لا التساؤل عما إذا كانت الأديان من عند الله أو من صنع الإنسان، و أيها أصح من الٱخر، فهذه الأسئلة قد عرفت تنوعا كبيرا في الإجابات بقدر تنوع الاتجاهات الفكرية و اللاهوتية الدينية و اللادينية، و مهما كانت النتائج حول حقيقة الله فإن تاريخ هذه الفكرة لا بد و أن يخبرنا بأشياء عديدة عن العقل البشري في خضم محاولاته المستميتة في الوصول إلى فهم للحقيقة التي نسميها الله، و من ثم فإن موضوعنا سيكون عبارة عن محاولة لإلقاء بعض الضوء من زاوية مختلفة تستشف مقاربة الوجود و من خلاله فكرة الاله المتعالي كإسقاط للاحتياجات و الرغبات البشرية، بما يعكس مخاوف و طموحات، و كذا مستوى وعي الجنس البشري الممتد في التاريخ لٱلاف السنين.

منذ البداية تمثل الإنسان البدائي وجود إله قادر يسير شؤون البشر من بعيد، كان ذلك دون دين خاص و لا تصوير في تمثال، كان يكفي استشعار حضور ذلك الاله المتعالي كتفسير لسر مأساة الحياة، لقد كان هذا الإحساس بالمقدس أساسيا و سابقا لأي رغبة لشرح أصل العالم أو لإيجاد أساس للسلوك الأخلاقي، فقد أحس البشر بهذه القدرة الخارقة للطبيعة بشتى الطرق، كانوا يشعرون بالرهبة و بالتواضع في حضور القدرة الخفية الموجودة في كل مظهر من مظاهر الحياة. طبعا بعد ذلك تطورت طريقة فهم الناس لله وفق تناسب اطرادي مع تعقد الإشكاليات المطروحة أمامهم، تم ابتكار الأساطير فكانت القصص الرمزية محاولة للإحاطة بمختلف الأسرار بحسب مستوى فهمها البشري المعاصر، عندما حل عصر الزراعة، كانت الإلهة الأم تعبر عن إحساس بتلك الخصوبة التي كانت تحدث تحولا في الحياة البشرية، بعد ذلك كان لا بد لفعالية هذه الفكرة أن تنتهي عند الدرجة التي تليها في سلم الترقي الإنساني، فعندما كان يتوقف مفهوم ما لله عن أن يكون ذا معنى، كان يتم تجاهله و تحل محله ثيولوجيا جديدة، بهذا المعنى كان يتم إنكار إله لم يعد كافيا لحل مشكلات ذلك العصر، و من ثم كان لزاما على كل جيل أن يخلق صورة الله المناسبة له، و هكذا فقد تم اعتبار كل من اليهود و المسيحيين و المسلمين جميعهم ملحدين من قبل معاصريهم و ذلك لأنهم اعتنقوا مفهوما ثوريا للألوهة و التسامي.

في كل مرة يحس الإنسان أن مفهومه عن الله قد بلغ ذروة الكمال، ثم ما يلبث ذلك المفهوم أن يجد نفسه أمام ذروة التعقيد فيتجدد الغوص في مستنقع الخلافات حول هذا المفهوم الذي تم تكوينه و تعود الأسئلة للتوارد حول فعاليته من جديد، فحتى بعد اكتفاء البشر بما جاء من أديان و توقف ظهور الأنبياء  كان لزاما على المنتسبين لكل دين أن يجدوا أفكارا عن الله تناسب حاضرهم، و إن هم تخاذلوا عن هذه المهمة الاجتهادية فإنهم سيسقطون في الصنمية في و في عبادة إله شخصي على صورتهم و كإسقاط لرغباتهم، عند هذا الحد تسيطر نزعة أصولية غير متسامحة في رؤيتها و يسود فهم أقرب إلى الحرفية للكتب المقدسة، و لعل هذا الاستخدام لله كٱلية لتعطيل القدرة على الإبداع، هو ما جعل منظور الحياة دون إله يستهوي الكثيرين في العصر الحديث، هؤلاء الذين نادوا بالتحرر من إله يتم تمثله على شكل طاغية يفرض شريعة غريبة و على خدمه السير عليها دون رغبة منهم، فقد رأى هؤلاء أن إلقاء الرعب بين الناس طلبا للطاعة في تلويح بالتهديدات لم يعد مقبولا و لا مناسبا لطبع مابعد الحداثة، حيث تتم مقاربة العالم بوصفه فضاء حقيقيا حلوليا مكتفيا بذاته في اعتماد على العقل و العلم، بيد أن هذا النهج في إزاحة الدين التراثي، أو ما عبر عنه نيتشه بحدث موت الإله قد تبين كذلك فيما بعد أنه حدث لا يمكن إنجازه، لأنه قد اقتلع الجنس البشري من جذوره و رمى بالأرض خارج مسارها، رماها كي تعوم في كون لا مسار له، و تلك النزعة الفردية التي وعدت الانسان بتحرر كامل و هانئ، ما لبثت أن تحولت إلى شكل من الوثنية، لأنها أصبحت غاية تحمل تأثيرا خطيرا إذا ما ترك لها العنان بشكل مطلق، و من هنا تمت إعادة استدعاء الدين إلى مسرح الحياة البشرية لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

مرة أخرى تبدت الحاجة ماسة إلى تشكيل مفهوم جديد عن الله، بعد أن ظهر جليا أن الدين كان و لا يزال ضرورة لا مناص منها للجنس البشري، فالقلق العميق الجذور هو جزء من الشرط الإنساني، إنه ليس قلقا عصابيا لأنه لا يمكن استئصاله و لا إزالته بل هو جزء من تركيبة الإنسان، و في الحقيقة فإنها لميزة ٱسرة في العقل البشري أن يكون قادرا على نسج مفاهيم جديدة كلما استدعت الضرورة ذلك عن فكرة الله، هذه الفكرة التي لم تنشأ من نقطة واحدة و لم تتطور في مسار خطي لتصل مفهوما نهائيا، بل هي تبقى قابلة للتطور بتطور عقل الكائن البشري و بتطور حسه الوجداني.

Avatar for عادل كوننار

كُتب بواسطة عادل كوننار

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for عادل كوننار

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0