أُغلقتْ جميع محلات لبيع الزهور في صباح تلك الليلة المرعبة (1). ولم يقتصر الأمر على تلك المحلات فحسب، بل توقفت جميع الخدمات العامة في المدينة. وبمرور الأيام بدأت تمارس نشاطها رويدا رويدا تارة، وفي الخفاء تارة أخرى، إلا أن محلات لبيع الزهور ما زالت مغلقة.
في الواقع لم يكن أحد من تجار الزهور على علم بقرار أخير بعدم مزاولة عمله بعد الآن. لعلهم حسبوا أن سكان هذه المدينة سوف لا يحتاجون إلى الزهور. وحتى لم يزيلوها من على واجهة العرض، وبقيت محلات بلا أي تغير كما كانت وقت إغلاقها قبل وقوع تلك المأساة. وكأن الزهور أيضا شعرت بما حدث، وذبلت وجفت في غضون ليلة واحدة بشعور أنها عديم الفائدة، وفي المساء فاحت رائحة الزهور المتعفنة في الشوارع.
إلا قرنفل.. أصبح الناس يجدونها حيثما اتجهوا، وكانت في أيدهم. لذلك لا يمكنك العثور عليها بين الزهور على واجهة عرض المحلات. ولا أعرف من ومتى وزعها على الناس؟
كنت أنا الوحيد الذي لم يغلق محلي لبيع الزهور. في الحقيقة لا يمكن إطلاق عليه اسم المحل بالمقارنة مع محلات أخرى، كان محلي القديم الذي يحتاج إلى الصيانة ويشبهني تماما، يقع في الدور الأرضي من المبنى الذي أسكن فيه، في زاوية بعيدة عن الأنظار. ولم يكن لدي إلا القليل من الزبائن، وفي الغالب كان معظمهم من الجيران. وكنت أنبت الزهور بنفسي، وقد حولت شقتي التي تحتوي على الغرفتين في الدور الثالث بالمبنى ذي خمسة أدوار إلى مشتل. إذا ما دخل أحد إلى شقتي فمن المحتمل أنه لن يصدق أن أحدا يسكن فيها. أو قد يظن من دخل فيها لأول مرة أنه دخل الجنة، ولعله يفرح بالعودة إليها بعد آلاف السنين. لا شك في أن من رأي الجنة وفكر بهذه الطريقة يجب أن يكون لديه القليل من التخيلات غير صحيحة، لأن من عنده عقل سليم كان ليفر متحيرا من الشقة بمجرد شعوره برائحة التربة والخراطين القادمة من الغرفتين. وكنت أتساءل نفسي لماذا لم أهرب أنا منها حتى الآن؟ ربما هناك سببه واحد، هو حبي للأزهار التي أزرعها. وكان حبي هذا يفوق الحب العادي للطبيعة. على سبيل المثال، كان يشبه بحب الجد للحفيد. وكنت ألاطفها كأطفال صغار، وأتكلم معها، وهي بدورها تنسيني كل مشاكلي وهمومي من الدنيا كلما أعتني بها فينتابني إحساس جميل. أستمتع بقضاء وقتي معها في شيخوختي، وأغني لها الأغاني. ربما كان ذلك ما يشبه بمرض أصبت بها في شيخوختي.
كنت على يقين بأنها تحبني أيضا. لم أشاهد أبدا أن البذور التي زرعتها ما نبتت، والشتلات التي غرستها ما نمت، وأزهاري ذبلت حتى تلك الليلة المرعبة التي رأيتُها فيها. حتى تلك الليلة لم أشتر زهرة واحدة لأبيعها في محلي، كنت أعرض للبيع الأزهار التي أنبتها بيديّ فقط. وربما هذا هو السبب الذي دفعني إلى فتحي محلي لبيع الزهور.
في الليلة التي وقعت المأساة في المدينة، وكان دوي صرخات استغاثة وطلقات النار يتناهى إلى سمعي من الشباك المفتوح، ويعتريني الرعب كانت فكرة واحدة تشغل بالي.. الحفاظ على أزهاري وجهودي المبذولة على مدى سنين.
للكاتب / زاردوشت شفيع زاده
ترجمها من الأصل إلى العربية فريد صابر جمالوف
([1]) شهدت مدينة باكو العاصمة الأذربيجانية في ليلة 20 يناير 1990م اقتحام القوات المسلحة السوفيتية المدينة، حيث قامت بقتل السكان المسالمين الأذربيجانيين بهمجية ووحشية، مما أسفرت عن قتل 146 مدينيا، وجرح 744، واعتقال 841 شخصا بشكل غير قانوني، وتدمير 200 منزل، وإحراق 80 سيارة بما فيها سيارات الإسعاف. (المترجم)