in

متى نصبح مجتمعا مدنيا؟!

عادل كوننار ـ متى نصبح مجتمعا مدنيا؟!

بداية، حتى لا يختلط الأمر على القارئ، و حتى يصير العنوان أكثر وضوحا، من الضروري أن نشير أن ما نقصد إليه بعبارة “مجمتع مدني” يختلف كليا عن ذلك المفهوم الشائع الذي يملئ وسائل الإعلام في زمننا المعاصر، و الذي يقصد به مجموع المنظمات غير الحكومية التي لها وجود في الحياة العامة، من خلال عدد من الأنشطة التطوعية ذات القيم و المصالح والأهداف المشتركة.

بينما موضوع مقالنا هذا، يتجه إلى المجتمع المدني بمعناه الفكري، الذي ظهر أول ما ظهر لأول مرة في بدايات القرن الثامن عشر، إذ صار يشار مُذاك إلى المجتمع المدني بذلك المجتمع الذي يقع في مقابل المجتمع البدوي، حيث كان الإنسان يعيش في مرحلة سابقة وضع ما قبل المجتمع و النظام الاجتماعي، أي مرحلة البداوة التي تسبق التمدن، ومن علائم البداوة التي كانت سائدة ما قبل التمدن، أن يعيش الإنسان في حالة الفردية والأنانية التي تجعله يحيا وفق حالة الطبيعة، من دون التقيد بأي قوانين أو ضوابط اجتماعية، إن البداوة هنا تعبر عن صورة وحشية ميزتها الانفلات بدافع من الغريزة و الشهوة، هنا لا يصبح البقاء ممكنا إلا للأقوى و تصير أسمى الغايات هي حفظ البقاء، غير أن هذا الأمر سرعان ما أدى بالإنسان في نهج تطوري إلى الاضطرار لأن يترك حالته الفردية تلك، و إلى تشكيل مجتمع مدني حيث الكلمة لتنظيم اجتماعي لا للغرائز و الرغبات البهيمية، إنه المجتمع البشري الذي سيرى النور، بما يسمح للإنسان بأن يتعلم كيف يعيش الحياة مع الآخرين، و إذ يُشترط أن يتحقق في هذا العيش المشترك عدد من القواعد و السمات حتى يستحق مجتمع ما بأن يوصف بأنه مدني، و نظرا لصعوبة تحقق تلك الشروط على مستوى منطقتنا العربية، فلأجل ذلك كان تساؤلنا في العنوان : متى نصبح مجتمعا مدنيا؟!

و للتفصيل أكثر في الموضوع دعونا نعرض لبعض تلك القواعد المميزة للمجتمعات المدنية الحقة، و التي نراها غائبة أو غير متحققة بما يكفي لدينا.

إذا تقرر أن تكون الصفة الرئيسية للإنسان ما قبل التمدن هي التعري و الانفرادية، أي أن يتحرك نحو الاستجابة لرغباته، و يعمل كل ما يحلو له من دون ضابط، و من دون أن يرى للطرف المقابل أي حق، فإننا عندما ندخل إلى دائرة المجتمع المدني يصير مطلوبا منا تقييد هذا الانفلات و الجموح عبر أحد طريقين، أولهما طريق الأخلاق و الثاني هو طريق القانون.

فالدائرة الاجتماعية تستوعب ساحة واسعة من سلوكيات الإنسان  و بالتالي تستلزم التخلق بقواعد أخلاقية حتى يستيطع الإنسان أن يعيش حياة آمنة و كريمة مع الآخرين، و الأمر هنا من المفروص أن يكتسب أهميته القصوى في المجتمعات العربية التي توصف شعوبها بأنها متدينة بطبعها، ما يعكسه الحضور المركزي للدين في حياة هذه الشعوب، و من هنا نود معرفة النسبة بين الدين و المجتمع المدني عندنا، إن كل نمط من التدين هو نوع من اللباس الذي يغطي عري الإنسان، أي أن التدين بهذا المعنى يقع في مقابل البداوة، و هو يمنح الفرد السبيل من خلال آداب معينة إلى الحياة الإنسانية المدنية، التي يتحقق فيها كبح جماح الشهوات و التحلي بالتقوى في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية، و لعل نظرة الى واقع حال التدين عندنا تبين إلى أي حد نحن نبقى بعيدين عن أن تتوغل التقوى إلى أعماقنا، كما و يتبين إلى أي حد تم الاستيلاء على الدين و من ثم توظيفه في مهمة السيطرة و تدجين الناس بما يصب في مصلحة الماسكين بالسلطة، لقد تم استخدام الدين من قبل المغرضين ليكون وسيلة للهبوط إلى أعماق الهاوية بدلا من أن يكون وسيلة للصعود و الخلاص، و في ظل هذا الحال من الطبيعي أن لا يتحقق التناغم بين التدين و المجتمع المدني، حال قد تم ترسيخه أكثر من خلال تحرك المتدينين نحو فرض حقيقة وحيدة و نفي كل تعدد، الأمر الذي يتنافى كذلك مع جوهر المجتمع المدني الذي من سماته عدم فرض وحدة في الأديان و الآراء.

إن أجواء كهاته في مناخ لم تتسرب التقوى إلى داخله سرعان ما سيتحول فيه الإنسان إلى بدوي عار يتوسل بالعنف في تعامله مع الآخرين و يعتدي على حقوقهم. و لذلك كان الالتزام الديني و الأخلاقي غير كافيين، فقد يدعي كثيرون ظاهرا أنهم ملتزمون بالدين و بالأخلاق، و لكن على مستوى الفعل يغيب ذلك الالتزام، و لذلك ارتأى السائرون في درب المجتمع المدني، أنه من اللازم سلك الطريق الثاني على نهج كبح جموح بني البشر، و هو طريق القانون في صورة إلزام أخلاقي من الخارج بما يراعي حقوق الناس و المصلحة العامة، على أن يختاروا هم بأنفسهم و دون إجبار القانون و النظام الذين يرونه صالحا لتنظيم أمورهم، و لكي يتم ذلك و في إطار من الحياة المدنية، فلابد أن يفوض أمر القضاء و الحكم و التنفيذ إلى هيئة أو شخص يتمكن أفراد المجتمع من اختياره بملئ إرادتهم، عبر تفويض عن طواعية و حرية، يقولون من خلاله أنهم يختارون ذلك الشخص و يكلفونه بتدبير أمورهم، هنا يمكن للمجتمع المدني أن يبدأ بالظهور حقا، ذلك أن المجتمعات البدوية السابقة لم تفوض أمر الحكومة باختيارها إلى هذا الحاكم أو الوالي، بل إنهم ما كانوا يقدرون على مواجهته فاضطروا للطاعة و الخضوع، لقد كان ذلك شكلا من أشكال التزاحم في الرغبات الذي يميل لصالح شخص أقوى من الآخرين، بما يجعله يخضعهم لسيطرته، في سلسلة استقوائية تنسحب في شكل تراتبي على هكذا مجتمع كلعبة دومينو، بما يتوافق مع تلك القاعدة الكبرى في المجتمع البدوي و التي تمنح الغلبة للأقوى، و الأمر يختلف طبعا في المجتمع المدني حيث يختار الناس شخصا لإدارة حكومتهم و القضاء بينهم بكامل الحرية، بما يحول إرادة الجميع إلى إرادة الحاكم برغبة المحكومين، هنا يتحقق التساوي داخل المجتمع كمعوض أرقى عن قانون الغاب.

إن إحدى أهم علامات المجتمع المدني هي رؤية الناس و قد لبسوا ثوب القانون باختيارهم، و أحالوا رأيهم إلى جهاز معين لتسيير شؤونهم، في أسلوب متحضر يقطع مع أساليب الإنسان البدائي العريان القائمة على التسلط و القهر، و نحن كشعوب هذه المنطقة من العالم لا نزال نقف أمام أحد خيارين، إما أن نخطو نحو مجتمع مدني، خطى إليه بشر معاصرون لنا في مناطق أخرى من هذا العالم، و إما أن نظل نتوسل في معيشنا بمنطق الغلبة و بإلغاء التعددية و بالفرار من القانون، فهذه كلها تبقى وسائل غير متمدنة تحكي عن أننا شعوب ما تزال تعيش في الحالة البدوية و لم ترتدي بعد لباس التمدن و التحضر.

Avatar for عادل كوننار

كُتب بواسطة عادل كوننار

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for عادل كوننار

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0