in

مغالطة التأثيل

مغالطة التأثيل

يعتقد الكثيرون خطأً أن الدلالة الحقيقية لأية كلمة يمكن استخلاصها من أصلها التاريخي، وهو ما يُعرف بـ”الإتيمولوجيا” أو “التأثيل”. يشرح التعريف اليوناني لكلمة “إتيمولوجيا” هذه الفكرة بأنها “توضيح الكلمات الذي يُظهر معانيها الأصلية بوضوح”، لكن هذا التصور يعد تبسيطاً مفرطاً لطبيعة اللغة وأصولها والقواعد التي تحكمها:

  • مثلاً، كلمة “فنان” مشتقة من “فن” وهو يعني اللون بالعربية (كما ذكر أبو منصور “واحد الأفنان للألوان فن”). قد تكون هذه المعلومة مفيدة بشكل محدود في فهم استخدامنا الراهن لكلمة “فن” و”فنان”، لكنها لا تكفي لتقديم فهم عميق لمعنى الفن وفلسفته وتجلياته وتقويمه وأهميته اليوم وفي الماضي.
  • لا شيء يمنع أن يزدري أحدهم كل الأدب الشفهي بناءً على أن كلمة “literature” (أدب) مشتقة من الكلمة اللاتينية “litera” التي تعني الحرف الأبجدي.
  • وقد يزعم آخر أن التعليم لا يجب أن يكون إلزاميًا بناءً على أن كلمة “education” (تعليم) مشتقة من الكلمة اللاتينية “educere” التي تعني “يغريه بالكلام بحرية”، والتي قد تعبر عن الملاطفة والاجتذاب بدلاً من الإجبار.
  • ويعني هذا أن كلمة “prevent” (يمنع) كان ينبغي لها أن تعني “يسبق” أو “يستبق” لأنها مشتقة من الكلمة اللاتينية “prae” وتعني “قبل”، وكلمة “venire” وتعني “يذهب”.
  • أو أن كلمة “nice” كان يجب أن تكون لفظة تحقير؛ لأنها مشتقة من كلمة فرنسية قديمة تعود للقرن الثالث عشر وتعني “أحمق” أو “غبي”.

بيد أن استخدام الكلمات يعتمد بشكل كبير على السياق الذي تستخدم فيه لاستنباط المعنى المراد، ولا يُعتمد كثيراً على “التأثيل” أي رد الكلمة إلى أصلها التاريخي، والذي قد يكون غامضاً تماماً وخصوصاً إذا كان يستند إلى لغة أجنبية أو قديمة.

تغفل مغالطة التأثيل حقيقة أن اللغة ليست جامدة أو ثابتة، بل تتأثر بتغيرات متعددة مثل التغير الصوتي، والتغير النحوي، وبالأخص التغير الدلالي، وهو ما يهمنا في هذا المقام. من أنواع التغير الدلالي ما يُعرف بـ “التدهور الدلالي”، حيث يتبدل معنى الكلمة ليحمل دلالات سلبية، مثل كلمة “notorious” التي تحولت من معنى “مشهور” إلى “مشهور بالسوء”. وفي المقابل، هناك “التحسين الدلالي”، حيث تكتسب الكلمة معانٍ إيجابية أو تخلص من دلالاتها السلبية الأصلية، كما في حالة كلمة “minister” التي تعني “خادم” وأصبحت تعني “وزير”.

أُطلقت تسمية هذه المغالطة بـ “etymological fallacy” من قبل جون ليونز، وهي تعني الخطأ الذي يقع فيه البعض عندما يستنتجون أن معنى كلمة ما يجب أن يتطابق مع معناها الأصلي المستمد من اليونانية أو اللاتينية أو العربية، إلخ. وتبين زيف هذه الحجة عند النظر في الافتراض الضمني بأن هناك صلة حقيقية بين الشكل والمعنى، وهو ما لا يمكن التحقق منه دائمًا.

اهتم الإغريق بطبيعة اللغة ونشأتها، ورأى بعضهم أنها ظاهرة طبيعية، بينما اعتبرها آخرون، مثل أرسطو، ظاهرة اجتماعية وأن أصواتها مجرد رموز اصطلاحية. ومن هذا الاختلاف نشأت نظرية التوقيف التي ترى أن اللغة موحى بها من الله ونظرية الاصطلاح التي تعتبر أن اللغة نتاج تواضع واتفاق بشري.

كان لهذه الأفكار تأثير على الفكر العربي، حيث دافع ابن فارس عن النظرية التوقيفية، بينما أخذ ابن جني بالنظرية الاصطلاحية، مشيرًا إلى أن أصل اللغة نابع من التواضع والاصطلاح.

في النهاية، تعد التأثيل مجرد منهج من مناهج الدراسة اللغوية التي تركز على تحليل التطور التاريخي للكلمات، لكنها قد تفشل في تقديم فهم دقيق للمعنى الحالي للكلمة بعيدًا عن سياقها الاصطلاحي الحديث.

الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية

يناقش سوسير مفهوم العلاقة الاعتباطية بين “الدال” و”المدلول”، مشيرًا إلى أن الارتباط بينهما ليس طبيعيًا أو ضروريًا. يُمكن القول ببساطة أن العلامة اللغوية هي علامة اعتباطية؛ فمثلاً، المفهوم الذي نعبر عنه بكلمة “الأخت” في اللغة الفرنسية لا يرتبط بالضرورة بالأصوات المحددة التي تُستخدم للدلالة عليه، ويمكن تمثيل هذه الفكرة بأصوات مختلفة تمامًا في لغات أخرى. وهذا يظهر جليًا من خلال الاختلافات اللغوية الواسعة، حيث يمكن أن يكون لنفس المدلول أدلة مختلفة في لغات مختلفة، مثل كلمة “ثور” التي تتغير بين الفرنسية والألمانية.

سوسير استخدم مصطلح “رمز” للإشارة إلى العلامة اللغوية، وتحديداً للدلالة على “الدال”. ومع ذلك، يعتبر استخدام هذا المصطلح معقدًا بعض الشيء بسبب المبدأ الأساسي نفسه، فالرمز عادةً ليس اعتباطيًا تمامًا لأنه قد يحتوي على بقايا من رابطة طبيعية بين الدال والمدلول. على سبيل المثال، رمز العدالة، أي الميزان، لا يمكن استبداله بشيء لا علاقة له بالمفهوم كالدبابة أو العربة.

الاعتباطية في هذا السياق لا تعني أن الاختيار اللغوي متروك بالكامل لإرادة المتحدث. بل على العكس، فإن العلاقة بين الدال والمدلول في العلامة اللغوية لا تستند إلى أسباب طبيعية، ومع ذلك، لا يمكن لأي شخص تغيير العلامة اللغوية التي استقرت في مجتمع لغوي معين بمفرده.

ليونارد بلومفيلد وتحديات التأثيل

يستعرض ليونارد بلومفيلد في كتابه “اللغة” المشاكل المتعلقة بالتأثيل ويبرز الصعوبات التي تواجه علم الأصول اللغوية. يوضح بلومفيلد أن استقصاء التاريخ اللغوي قد لا ينتج عنه فهمًا دقيقًا، ويطرح مثالًا على ذلك بكلمة “blackbird” (الشحرور) التي تعود إلى “black” (أسود) و”bird” (طير)، وهي تسمية واضحة تمامًا حيث تعكس الطبيعة السوداء لهذا النوع من الطيور.

ويقارن بذلك تحليلات علماء الإتيمولوجيا اليونان الذين ربما لم يستطيعوا رؤية رابطة مباشرة بين كلمات مثل “gooseberry” (عنب الثعلب) و”goose” (الإوز). يظهر بلومفيلد أن مثل هذه التحليلات لا تجدي نفعًا في كثير من الأحيان، حيث أن اللغات تقدم أمثلة متعددة لكلمات مقاومة لهذا النوع من التحليل، مثل كلمة “early” (مبكرًا) و”manly” (رجولي)، حيث تنتهي كلاهما بـ “ly”، ولكن إذا حُذفت هذه اللاحقة من “early”، فإن ما يتبقى لا يعطي معنى واضح.

يُشير أيضًا إلى أمثلة مثل “woman” (امرأة) التي تشترك في جزء من تركيبها مع “man” (رجل)، لكن الفاصل بينهما وهو “wo” لا يحمل أي دلالة مفيدة في التحليل الاشتقاقي. يلفت النظر إلى أن تحليل الكلمات البسيطة مثل “man”, “boy”, “good”, “bad”, “eat”, “run” وغيرها يُظهر عدم وجود صلة واضحة بين الكلمة وما تشير إليه، مما يدل على أن العلاقة بين الاسم والمسمى ليست بالضرورة طبيعية أو منطقية.

بالتالي، يخلص بلومفيلد إلى أن التحليل التأثيلي لا يُسفر عن نتائج مثمرة، مؤكدًا على أن هذا يدل على غياب رابطة ضرورية بين الاسم وما يعنيه.

التبسيط المفرط للمصطلحات العلمية

تصل المغالطة التأثيلية إلى ذروتها عندما تُستخدم أدواتها التاريخية للتعامل مع المصطلحات العلمية أو التقنية، حيث يفترض أن هذه المصطلحات ذات طبيعة اصطلاحية خاصة. هذا النوع من التبسيط، الذي نُشير إليه بـ “vernacularization”، يُظهر كيف أن المصطلح العلمي عندما يُحاط بالمزدوجتين ينفصل عن ماضيه ويكتسب معنى جديدًا قد لا يمت لمعناه الأصلي بصلة، مما يجعل البحث عن أصوله وماضيه غير مجدي في فهمه ضمن سياقه الجديد. يقول جاستون باشلار في كتابه “المادية والعقلانية”: “اللفظ المُحاط بالمزدوجتين يصبح بارزًا وتزداد حدة نغمته، يرتفع فوق اللغة العادية ليحمل نغمة علمية، وما إن يُوضع لفظ عادي في هذا الإطار حتى يُظهر تحولاً في طريقة الاستدلال ترتبط بمجال جديد للتجربة، ومن وجهة نظر الباحث الإبستمولوجي، فإن هذا اللفظ يصبح دلالة على قطيعة وانفصال في المعنى وتصحيح للمعرفة.”

عندما يُزعم أن الادعاء صحيح بمجرد أن الأصل اللغوي للكلمة يدعم ذلك، فإنه يتم الوقوع في استدلال دائري، ويُعد الافتراض بأن الكلمات يجب أن تظل متمسكة بمعناها التاريخي الأول إغفالًا لطبيعة اللغة الاصطلاحية وتقييدًا غير مبرر لتطورها ونموها.

اللغة في تطور مستمر، وهناك العديد من الأسباب التي تدفع الألفاظ لأن تتخلى عن معانيها القديمة وتتبنى معاني جديدة غير مرتبطة بمعانيها الأصلية. ومع استمرارية التغير في اللغة، من الطبيعي أن تتبعها علوم اللغة المكلفة بمراقبة هذه الظواهر اللغوية وتوجيه تحركاتها، وأن تكون هناك موازنة مدروسة بين المعيارية التي تحمي اللغة من التفكك والانهيار والوصفية التي تفتح أمامها آفاقًا للتطور والارتقاء.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0