عندما يتجه النقاش بعيدًا عن جوهر الموضوع إلى الهجوم على شخص الطرف الآخر بدلًا من مواجهة الحجة نفسها، نقع في خطأ المغالطة المعروفة بـ”الهجوم على الشخص” أو ما يُطلق عليها فنيًا “argumentum ad hominem”. هذه المغالطة تقوم على أساس أن صحة الحجة أو خطأها لا تتأثر بصفات أو ظروف قائلها. فمثلاً، الحقيقة أن “الماء يغلي عند 100 درجة مئوية” تبقى ثابتة سواء أدلى بها عالم محترم أو شخص عادي ليس له باع في العلم.
تكمن المغالطة عندما نركز هجومنا في النقاش على شخصية المتحدث بدلًا من النظر في مضمون كلامه، كأن نقول: “كيف تثقون في خطته لإصلاح النظام الضريبي وهو معروف بميله للغش والتلاعب؟”، حتى لو كانت الخطة نفسها تستحق النظر والتقييم بموضوعية.
هذه المغالطة تتفرع إلى عدة أشكال منها:
- التجريح الشخصي (السب والشتم): حيث يتم الهجوم المباشر على الشخص بالسب والشتم، مثل: “لا يمكن أن تكون فكرته صائبة وهو شخص أناني ومتسلط”.
- التعريض بالظروف الشخصية: وهو يتعلق بمحاولة تقويض الحجة بالإشارة إلى مصالح الشخص أو ظروفه، كأن نقول: “بالطبع سيدافع عن زيادة الضرائب فهو لا يتأثر بها نظرًا لثرائه”.
- مغالطة “أنت أيضًا”: تُستخدم عندما يُحاول المرء تبرير تصرفه بالإشارة إلى أن الطرف الآخر يفعل الشيء نفسه، مثلاً: “لا تنتقدني على التأخير وأنت نفسك لم تصل في الوقت المحدد”.
- مغالطة تسميم البئر: وهو تشويه سمعة الشخص أو تقديمه بصورة سلبية مسبقًا للتأثير على استقبال الآخرين لحجته، كأن يُقال: “لا تستمعوا إلى اقتراحه فهو معروف بأفكاره الراديكالية”.
من الأهمية بمكان أن نعي أن جدوى الحجة تكمن في محتواها وليس في شخصية من يطرحها، وأن النقد البناء ينبغي أن يستهدف الأفكار لا الأشخاص، مما يضمن نقاشًا أكثر صحة وإنتاجية.
التجريح الشخصي (السب والشتم)
عندما ينحرف النقاش عن مساره ليركز على شخصية الطرف الآخر بدلاً من موضوع الحجة نفسه، ندخل في نطاق مغالطة “الهجوم على الشخص”. هذه الطريقة تحوّل الانتباه من النقاط المهمة إلى عيوب أو سمات الشخصية، مما يخلق وهماً بأن حجته غير صالحة بسبب هذه العيوب.
أمثلة :
- عند نقاش سياسة تعليمية جديدة: “كل الأفكار التي يطرحها هذا الوزير لا قيمة لها، فقد رُصد وهو يغش في امتحانات الجامعة” (انتقادات لشخصية سياسي في القرن العشرين).
- حول مصداقية نظرية علمية: “كيف يمكن لأحد أن يثق في نظرية هذا العالِم؟ لقد كان يسرق أبحاث زملائه.”
- في جدال حول مصداقية مقال صحفي: “لا داعي لأخذ هذا المقال على محمل الجد، فالصحفي الذي كتبه معروف بآرائه الجدلية.”
- عند تقييم مساهمة عالم في مجاله: “أينشتين لم يكن سوى موظف بريد عندما طور نظريته، فكيف تكون معادلة (E=mc^2) صحيحة؟”
- خلال اجتماع لمجلس إدارة حول دمج شركتين: “قبل أن نستمع لاقتراح السيد أحمد حول الدمج، يجدر بنا التذكير بمغامراته المالية الفاشلة التي خلفت وراءها سلسلة من الديون.”
في كل هذه الأمثلة، تتبع الهجومات نفس النمط المنطقي الخاطئ:
- “س” يطرح حجة “ق”.
- “س” لديه عيوب شخصية “ك”.
- لذلك، الحجة “ق” خاطئة.
يكمن الخطأ في استخدام السمات الشخصية كأساس لرفض الحجة، بينما يجب أن يتم تقييم الحجج بناءً على مدى صلابتها ومنطقيتها بعيدًا عن شخصيات من يطرحها.
النقد الشخصي
في بعض الظروف، يصبح النقد الشخصي مرتبطًا بشكل مباشر بالموضوع المناقش ولا يعد مغالطة. على سبيل المثال، خلال الانتخابات، قد يهتم الناخبون بالسلوك الأخلاقي والمهنية للمرشحين بقدر اهتمامهم بالسياسات المقترحة. كما يُعتبر سلوك وأمانة الموظف مهمين في مقابلات العمل، ولا يُتوقع من المؤسسات المالية توظيف شخص لديه تاريخ في التصرفات غير الأمينة. في السياق القضائي أيضًا، يُعتبر التشكيك في مصداقية الشاهد بناءً على سماته الشخصية وتاريخه جزءًا لا يتجزأ من الإجراءات لتقييم صدق شهادته.
يمكن تطبيق استنتاج استقرائي يقوم على أن الشخص الذي قام بتصرفات مشكوك فيها في الماضي قد يكون ميالًا لتكرار نفس السلوك. ومع أن هذا الاستنتاج لا يوفر يقينًا مطلقًا، إلا أنه قد يكون كافيًا للتشكيك في مصداقية الشهادة أو في مؤهلات الشخص.
لذلك، في الحالات التي تكون فيها صفات الشخص وتاريخه متصلة بالموضوع المطروح، لا يُعتبر النقد الشخصي مغالطة. ومن هنا، يجب تعديل تفسير مغالطة الهجوم على الشخص لتصبح أكثر دقة:
- “س” يقدم حجة “ق”.
- “س” يتميز بخصلة “ك”.
- “ك” ليس لها علاقة مباشرة بالحجة “ق”.
- بالتالي، الادعاء بأن “ق” خاطئ بناءً على “ك” يُعد مغالطة.
هذا النهج يشدد على ضرورة التمييز بين الحالات التي يكون فيها القدح الشخصي جزءًا لا يتجزأ من تقييم الموقف، وبين الحالات التي يُستخدم فيها كأداة للتهرب من مواجهة الحجة نفسها.
الظروف الشخصية
في بعض الحالات، يُصبح من المهم النظر في ظروف الشخص الخاصة ومصالحه عند تقييم حجته، خصوصًا عندما تتعلق الحجة بمواضيع مثل الانتخابات، مقابلات العمل، أو الشهادات القضائية. في هذه السياقات، تُعتبر الصفات الشخصية والأخلاقية جزءًا لا يتجزأ من تقييم الحجة.
أمثلة معدلة:
- خلال مناظرة سياسية: “يُطالب بإصلاحات اقتصادية تشمل خفض الضرائب، لكن لا تنسوا أنه يملك سلسلة مطاعم كبرى ويستفيد شخصيًا من هذا الخفض.”
- في مراجعة سير ذاتية لمرشحين لوظيفة: “من المثير للاهتمام أن تقدم هذا المرشح لمنصب في الإدارة المالية وهو قد مر بعدة إفلاسات شخصية في السنوات القليلة الماضية.”
- عند تقييم نقد لنظرية علمية: “صحيح أنه ينتقد بشدة نظرية التغير المناخي، لكن لا بد من الإشارة إلى أنه يحصل على تمويل بحثه من شركات الوقود الأحفوري.”
- أثناء تقييم توصيات لسياسات عامة: “تُعارض بشكل قوي توسيع الرعاية الصحية الحكومية، ومن المفارقات أنك تعمل كمدير في شركة تأمين خاصة.”
- في مناقشة حول تأثير الأدب على المجتمع: “أرى أنك تنتقد بشدة الروايات التي تتناول قضايا الفقر والتمييز، وهذا مثير للتفكير خصوصًا عندما نعلم أنك تنتمي لأسرة ثرية جدًا ولم تواجه مثل هذه التحديات في حياتك.”
من المهم التفريق بين الحالات التي يكون فيها القدح الشخصي جزءًا من تقييم الحجة وبين الحالات التي يُستخدم فيها كوسيلة للتهرب من النقاش الجوهري. في الأولى، يُعتبر النقاش حول ظروف الشخص الخاصة ومصالحه ذا صلة بالموضوع ولا يشكل مغالطة.
مغالطة “أنت أيضًا”
مغالطة “أنت أيضًا” تعبر عن موقف يرد فيه الشخص على انتقاد بالإشارة إلى أن الناقد يقع في نفس الخطأ الذي ينتقده. يُعتقد خطأً أن هذا يُضعف من صحة الانتقاد، بينما في الحقيقة، لا يتعلق الأمر بصحة الحجة نفسها.
أمثلة :
- في حوار حول أهمية الحفاظ على الصحة وتجنب الأطعمة الضارة، ينصح أحدهم: “يجب الابتعاد عن الأطعمة الغنية بالدهون”. فيرد الآخر: “لكنك تناولت بيتزا في العشاء بالأمس!”
- خلال مناقشة حول الحقوق البيئية، يطالب أحدهم بضرورة تقليل استهلاك المياه. يجيب الطرف الآخر: “ألم تملأ حوض السباحة الخاص بك الصيف الماضي؟”
- في جلسة نقاش حول النزاهة الأكاديمية، يُشدد أحدهم على ضرورة الاستشهاد بكل المصادر في الأبحاث. يرد الآخر: “هذا غريب منك، عندما أعرف أنك قدمت بحثًا العام الماضي دون الإشارة الكاملة لمصادرك.”
- في حديث عن أهمية التصويت في الانتخابات، يقول أحدهم: “يجب على الجميع المشاركة في الانتخابات لتحقيق التغيير”. يجيب الآخر: “ولكن ألم تخبرني أنك لم تشارك في آخر انتخابات؟”
- خلال مناقشة عن مكافحة التلوث، ينصح أحدهم بالتقليل من استخدام السيارات. فيرد الآخر: “ومع ذلك، أراك تستقل سيارتك يوميًا للذهاب إلى العمل بدلاً من استخدام وسائل النقل العام!”
هذه الأمثلة توضح كيف أن الاستناد إلى “أنت أيضًا” لا يُقدم حلًا للنقاش أو يُثبت خطأ الحجة المنتقدة، بل يُعتبر محاولة لصرف الانتباه عن النقطة الأصلية.
التعامل مع الظلم بالظلم
تُظهر الحكمة القائلة “استجب للإساءة بما هو أجمل” النهج الأمثل في التعامل مع الظلم. يُفترض أن من تجرع غصة الظلم يكون الأكثر حرصًا على عدم جعل آخرين يختبرون نفس المعاناة. يبني هذا المبدأ على فكرة أن العدالة تتطلب من المظلوم أن يكون نفسه خاليًا من اللوم، وفقًا للمقولات التي تحث على التسامح وعدم رد الإساءة بمثلها، مثل “من كان بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة”.
في الواقع، يُمكن استغلال هذه الفطرة الإنسانية لإثارة التعاطف مع المتهم، متجاهلين فظاعة جريمته، بالتشديد على أن المتضرر من جرائم مماثلة، وهذا ينطوي على منطق الاستباحة الذي يُعتبر خاطئًا لأنه يستنتج ببساطة أن الطرفين مخطئان.
العدالة تستلزم التعامل بمبدأ المعاملة بالمثل، لكن هذا المبدأ لا يُحول الخطأ إلى صواب. إذا اتبعنا هذه الفلسفة، سنجد أنفسنا في موقف يُبرر الجرائم ويُبرئ المذنبين لمجرد أن آخرين قاموا بالمثل.
تُغذي هذه المغالطة القديمة العداء والخصومة بين الأفراد والشعوب، مبررةً بذلك جرائم الانتقام والثأر. لذا، يجب أن تكون المؤسسات الحكومية والمجتمع الدولي مسؤولين عن تصحيح أخطاء الأفراد وتقويم انحرافات الشعوب، لضمان عدم الرضا برد الظلم بظلم مماثل أو تبرير الخطأ بوقوعه من الآخرين.
“إذا فعلوها هم أيضًا”
تُشير مغالطة “إذا فعلوها هم أيضًا” إلى الاستنتاج الخاطئ بأن خطأ ما يُصبح مقبولاً إذا كان الآخرون يرتكبون نفس الخطأ، أو أن ارتكاب خطأ معين يُبرر بوجود أخطاء مماثلة في مكان آخر. يعتمد هذا النوع من المغالطة على تحويل الانتباه من السلوك الخاطئ إلى سلوكيات مماثلة لدى الآخرين، في محاولة لتبرير الفعل الأول.
من الأمثلة على هذه المغالطة:
- “لماذا نُدين بالقلق حيال مستوى التلوث في مدينتنا والمدن الكبرى حول العالم تعاني من تلوث أشد بكثير؟”
- “نعم، نستخدم الرشاوي في أعمالنا، ولكن انظروا إلى الشركات العالمية؛ فهي تفعل الأمر ذاته وبنطاق أوسع.”
- “وقعت ظلمًا على الأقليات في بلادنا في الماضي، لذا فإن تعويضهم بنفس الطريقة تجاه الأغلبية يُعتبر عدلًا.”
- “لا داعي للقلق بشأن تجاوزات الحكومة في استخدام السلطة؛ فحكومات أخرى حول العالم تقوم بأفعال أكثر خطورة.”
في الواقع، يُبرز هذا النوع من المغالطة الاستنتاج الخاطئ بأن وجود خطأ في مكان ما يُبرر خطأ مماثل أو يجعله أقل أهمية. يُعتبر هذا النهج مشكلة لأنه لا يتناول القضية الأساسية أو يُقدم حلًا فعليًا للمشكلة، بل يُعزز فقط دائرة من الأخطاء المتكررة دون السعي لتصحيحها.
مغالطة “تسميم البئر”
تُشير مغالطة “تسميم البئر” إلى تلك الاستراتيجية التي يُقدم فيها شخص ما على تشويه سمعة خصمه قبل أن يُعطى الأخير فرصة لطرح حججه، مما يجعل أي شيء يقوله الخصم محل شك وارتياب. تختلف هذه المغالطة عن باقي أشكال الحجج الشخصية بكونها تُنفَّذ مسبقًا وتهدف إلى التأثير على تقبل الجمهور لحجج الخصم قبل حتى أن تُطرح.
أمثلة مبسطة ومعاد صياغتها:
- “احذروا مما “سيُقال” بعد قليل، فالمتحدث معروف بتحيزاته القوية.” (تسميم بالإشارة إلى السمات الشخصية.)
- “ليس من المستغرب أن يعترض على الإصلاحات البيئية، فهو يملك أسهمًا في شركات الوقود الأحفوري.” (تسميم بالإشارة إلى المصلحة الذاتية.)
- “من المحتمل ألا تُقدر النساء على الحكم في هذه القضية بموضوعية، لأن موقفهن العاطفي قد يطغى على تفكيرهن.” (تسميم بالإشارة إلى الجنس.)
- “أي توصية يقدمها هذا الخبير مشكوك فيها، فهو يتلقى تمويلاً من مؤسسات لها مصالح في القضية.” (تسميم بالإشارة إلى التمويل.)
- “قد يبدو خطابه مقنعًا، لكن تذكروا أنه سياسي محترف يجيد التلاعب بالكلمات.” (تسميم بالإشارة إلى الخبرة السياسية.)
تعمل هذه المغالطة على خلق حالة من التحيز السلبي تجاه الخصم قبل بدء النقاش أو الجدال الفعلي، مما يضعف من قوة حجته بغض النظر عن مدى صحتها أو قوتها. ومن الضروري التمييز بين تقييم الحجة بناءً على محتواها وبين رفضها بسبب خصائص مُقدمها.
ناقشنا هذه المغالطة بتفصيل أكبر في مقال منفصل يمكن الرجوع إليه للحصول على فهم أعمق حول هذا الموضوع.