in

مغالطة انحياز التأييد

مغالطة انحياز التأييد

تعتبر تجربة البطاقات المعروفة واحدة من التجارب النفسية المثيرة التي تكشف عن ميولنا اللاواعية. في هذه التجربة، يُعرض على الأفراد مجموعة من البطاقات، كل واحدة تحمل رقمًا من جهة وحرفًا من جهة أخرى. تُطرح فرضية تنص على أنه إذا كان هناك حرف متحرك على جانب من البطاقة، فيجب أن يكون الجانب الآخر لها رقمًا زوجيًا.

يُطلب من المشاركين اختيار أقصر طريقة ممكنة للتحقق من صحة هذه الفرضية. يقع الكثير منهم في فخ اختيار البطاقة التي تحمل الرقم الزوجي، ظنًا منهم أن ذلك سيؤكد الفرضية، بينما في الواقع، ينبغي عليهم اختيار البطاقة التي تحمل الحرف المتحرك ليروا إذا كانت تخفي رقمًا زوجيًا وكذلك البطاقة التي تحمل رقمًا فرديًا ليتأكدوا من أن جهتها الأخرى لا تحمل حرفًا متحركًا. إن كانت النتيجة توافق الفرضية، تُعتبر صحيحة؛ وإن لم تكن كذلك، تُرفض.

ما يدفعنا إلى الخطأ في هذا التحدي هو ميلنا الطبيعي لتأييد الفرضيات بدلاً من البحث عن دليل يفندها. نحن نتجه بسهولة نحو البحث عن الأدلة التي تؤيد معتقداتنا بدلاً من النظر في الأدلة التي قد تدحضها. هذا الميل يمكن أن يقود إلى تأكيد الأفكار التي نميل إليها بدلاً من التوصل إلى الحقيقة الفعلية. يكشف هذا عن أهمية البحث النقدي الذي يتطلب منا أحيانًا تحدي الفرضيات وليس فقط تأكيدها.

تُظهر إحدى الحالات المثيرة في عالم السياسة كيف أن سياسيًا قرر أن إلغاء الضرائب المحلية قد يؤدي إلى تقليل معدلات الجريمة. لتأكيد هذه الفرضية، طلب من فريقه البحثي تجميع مئة حالة تُظهر انخفاضًا في الجرائم بعد إلغاء الضرائب، مما أكسبه ثقةً في صواب فرضيته. ولكن السياسي لم يتوخ الحيطة والحذر؛ لأنه كان يركز فقط على الأمثلة التي تدعم وجهة نظره، بدون البحث عن أي دليل قد يُضعفها. فلو أن فريقه تعمق أكثر لربما وجدوا مثالين لكل مثال يؤيدهم، يُظهر زيادة في الجرائم بعد إلغاء الضرائب.

يُعرف هذا الميل في علم النفس بانحياز التأييد، حيث يميل صانعو القرار للبحث عن الأدلة التي تدعم فرضياتهم وتجاهل تلك التي تنقضها. هذه الظاهرة تُشكل نوعًا من الانتقائية في جمع البيانات، وهي تُعد أحد الأسباب التي تؤدي إلى ترسيخ الاعتقادات الاجتماعية التي تُحقق ذاتها عبر الزمن.

وقد يعود جزء من هذا الانحياز إلى كيفية معالجة العقل البشري للمعلومات، حيث قد يجد صعوبة أكبر في التعامل مع البيانات السلبية مقارنة بالإيجابية. بيد أن الأبحاث تُشير إلى أن البشر قد يغيرون نظرياتهم إذا ما تواصل ظهور الأدلة السالبة وتراكمت بما يكفي للفت الانتباه. في البداية قد يُنظر إلى هذه الأدلة على أنها استثناءات أو أخطاء، لكن مع الزمن يمكن أن يقود تراكمها إلى تحول في الفهم واستراتيجيات الاستنتاج.

مذهب التكذيب (كارل بوبر)

يُعتبر كارل بوبر، الفيلسوف الشهير، أحد المنتقدين البارزين للفكرة القائلة بأن المعرفة العلمية تتطور عبر تجميع الأدلة التي تؤيد الفرضيات. في رؤيته المبتكرة لعملية البحث العلمي، يقترح بوبر أن فرضية لا تستحق الاعتبار العلمي إلا إذا كانت قابلة للتفنيد. يبين بوبر فكرته ببساطة: إن العثور على شواهد تدعم فرضية ما أمر يسير، ولكن هذا الأمر لا يعد طريقاً موثوقاً للعلم. على سبيل المثال، لنأخذ فرضية بسيطة: “كل النباتات تتكاثر جنسيًا”. لو كان علي فقط جمع الأدلة المؤيدة، يمكنني بسهولة العثور على الزنابق في حديقة وملاحظة تكاثرها جنسيًا، ولكن لو اطلع عالم نباتات على بحثي، لن يعيره اهتمامًا لأنني لم أبحث عن “أمثلة مضادة”. وبالتالي، قبل قبول أي فرضية، يتوجب علي أن أدرس مختلف الأنواع من النباتات لأحاول إثبات خطأ فرضيتي.

في سياق مماثل، لنفترض أن هناك فرضية تقول بأن “منطقة بروكا” في الدماغ هي المسؤولة عن إنتاج الكلام. لن يكفي إيجاد علاقة إيجابية بين التلف في هذه المنطقة وفقدان القدرة على الكلام؛ يجب أيضاً البحث عما إذا كان هناك أشخاص أصيبوا بتلف في منطقة بروكا دون أن يفقدوا النطق، أو حالات فقدان الكلام مع تلف في مناطق أخرى من الدماغ. فقط عندما لا نجد حالات تفند هذه الفرضية يمكننا اعتبار عدم القدرة على التفنيد دليلاً مهماً، وهذا يختلف عن تجميع الأمثلة المؤيدة.

بوبر يشير إلى أن العلماء إذا اكتفوا بالأدلة التأييدية فقط سينتهي بهم المطاف إلى الاعتقاد بعدد لا يحصى من الفرضيات الخاطئة ويسيرون في طرق مسدودة. ولكن إذا واجهت فرضية عدة محاولات لإثبات خطأها ونجت منها، فمن حينها يمكن الاعتقاد بها كأفضل فرضية متاحة حتى ذلك الوقت، ليس لأنها صحيحة بالضرورة، ولكن لأنها تحملت اختبارات التكذيب.

في الخلاصة، التكذيب وليس التأييد، هو الذي يُحدّد مصير النظريات العلمية. فالتأييد وحده لا يُعد كافيًا؛ لأن أي نظرية يُمكن أن تجد الكثير من الأدلة الموافقة لها. ومعظم النظريات العلمية تدّعي أنها مبنية على الاستقراء، أي استخلاص نتائج تشمل جميع الحالات المعروفة، وهذا لا يُعد إنجازاً منطقياً بالضرورة. المنهج الأكثر فاعلية، كما يرى بوبر، هو البحث عن أمثلة مضادة لإثبات خطأ النظرية؛ لأن مثالاً مضادًا واحدًا قد يُبطل النظرية بالكامل، بينما إذا تجاوزت النظرية تلك الاختبارات فإنها تعتبر قوية وموثوق بها كأفضل النظريات المتاحة في اللحظة الراهنة.

المثال السلبي فوق المثال الإيجابي (فرنسيس بيكون)

يُلقي فرنسيس بيكون، الفيلسوف الشهير، الضوء على أهمية النقد والتمحيص في استقصاء المعرفة وتجنب الاستسلام للآراء المسبقة أو المعتقدات الشائعة. في مؤلفه “الأورجانون الجديد”، ينتقد بيكون الميل الإنساني لتأكيد الآراء التي يُفضلها الفرد وإهمال الأدلة التي تتعارض معها. يشير بيكون إلى أن الإنسان يميل إلى التقليل من قيمة الشواهد الناقضة ويخترع تبريرات لإبعادها عن الاعتبار، مما يساهم في استمرارية الخرافات والاعتقادات الزائفة، كالتنجيم وتأويل الأحلام.

يُبيّن بيكون كيف يُظهر الناس تحيزاً واضحاً نحو الشواهد التي تتوافق مع الاعتقادات المفضلة لديهم، متناسين الأحداث الأكثر تكراراً التي لا تدعم تلك الاعتقادات. يُشبه هذا السلوك بمَن يتأمل الصور المعلقة في المعابد للناجين من الغرق كدليل على قدرة الآلهة، بينما يُهملون التفكير في الذين لم ينجوا رغم تقديمهم للنذور.

ويُؤكد بيكون أن هذه الأخطاء لا تنحصر في المعتقدات الشعبية بل تنفذ بدقة إلى الفلسفة والعلوم. حيث يتسبب الاعتقاد الأولي للعالِم في تشكيل طريقة تفكيره ويفرض سيطرته على الاكتشافات اللاحقة، حتى وإن كانت الأدلة الجديدة تُشير إلى خلاف ذلك. ويرى بيكون أن العقل الإنساني يميل بطبيعته لتفضيل الأمثلة الإيجابية على السلبية، بينما ينبغي أن يعامل كلا النوعين من الأمثلة بنفس القدر من الأهمية. وفي الواقع، يُعتبر المثال السلبي في إثبات القوانين الصادقة أكثر قوة ومنطقية من المثال الإيجابي.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0