أتمنى أن تكون الأسطر القادمة دعوى تجذب كل إنسـان سمع بالنظرية و لم تواليـه الفرصة للبحث فيها و فهمها و إدراك حقيقتـها ، كما أنه على القارئ أن لا ينسى أن الأدلّة التطورية التي جمعها داروين تقريبا طيلة حياته وبالأخص في الخمس سنوات التي جمع فيها الكثير من المواد و المعطيات الدقيقة في رحلة – البيغل – الشهيرة أين كان يطوف البحار طالبا للعلم كثيرة جدا ولا تكاد تنتهي.
كما أنّ الأدلّة التي أقدمها مجرد أدلّة تقريبية ، ظاهرية ، سهلة الهضم بالنسبة إلى القارئ المبتدأ الذي لا علاقة له ولا إهتمام عنده بعلوم البيولوجيا أو الجيولوجيا و غيرها من العلوم . أؤكد مجددا أن هذا المقال موجه إلى من لم تتح له بعد فرصة التعرف على هذه النظرية ، أما دارس هذه النظرية فله أن يقرأ هذا المقال ، و ربما يكون ذلك تعزيزا لأدلّته و حججه !
قبل أن أكتب هذا المقال ، أو بالأحرى قبل قيامي بتجزئة هذه الأدلّة البسيطة ، أدركت حقا أن النظرية الداروينية التطورية هي نظرية تحتاج إلى الكثير من الوقت لفهمها و إستيعـابها خصوصا أنّ العديد من العلماء المعاصرين يعترفون ويؤمنون بها ، وربما على دارس هذه النظرية أن يستعين بمتخصصين وأناس أكثر علما منه حتى تتاح له فرصة فِهمها ، فمثلا أتذكر أن البروفيسور و الكاتب – نيك لين – الكيميائي الحيوي التطوري إستعان بمجموعة لا تقل عن 16 بروفيسورا آخرا لإنهاء كتابه – الإختراعات العشرة للتطور – والذي صرح في مقدمته :
” سنتعرض إلى مختلف العلوم من الجيولوجيا والكيمياء إلى التصوير العصبي ومن فيزياء الكم إلى علم الكواكب ، سنتعرض لنطاق الإنجازات البشرية ”
و كلام الكاتب نيك لين دليل على أن فهم النظرية يستوجب زمنا ليس باليسير لفهمها الحق ولإدراك مقاصدها ثم تأكيد على أن الإنسان الذي يقوم بكل بساطة بنفي هذه النظرية العلمية التي تشتمل على بيانات ضخمة قائلا أنها مجرد نظرية ! هو إنسان سفيه لا يطلب علما لحب العلم ، وإنّما يسعى وراء الفتات لينفي به العلم !
قبل تقديم الأمثلة ، على القارئ أن يفهم بأن عقلية رجل العلم لم تكن يوما كعقلية رجل الدين أو الفلسفة ، فبينما رجل الدين يكثر من تقديم الآيات و القصص الإنسانية الغابرة من سِير الأنبياء و خير أعمال الصحابة و حتى القصص المتلوة في الذكر الحكيم و التي تلين قلب المستمع وتدفع به إلى أن يُحيِي مشاعره الدينية مجددا متذكرا قيمة الله و معاني الحب الأخوي و الأخلاق السامية ، نادما على ما يفعل ، دافعة إيّاه الى الندم والبكاء فإّن رجل العلم لا يقدم هكذا أمثلة ، فبالنسبة له فإّن 1 + 1 = 2 ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من الكلام أو المشاعر لفهم المعادلة ، و الأسطر القادمة عبارة عن أمثلة أو أدلة متواضعة من النظرية الداروينية الضخمة و التي سيكون فهمها سهلا بالنسبة إلى العامي الذي لا يمتلك روحية أو عقلية علمية . وإذا لم يلتمس القارئ المسلم تعففا فيما يقرأ حسب ظنه ، فأقول له تذكر المقال السابق الذي يستبدل مفهوم ” الشيطان ” ب ” الوسوسة الهرمونية ” وذلك دائما لفهم عقلية رجل العلم التي تختلف كل الإختلاف عن رجل الدين .
التطور إصطلاحا هو التحسين من أصل الأشياء للوصول إلى تحقيق الأهداف المرجوة بصورة أكثر كفاءة . أول شيء على المرء أن يدركه هو أن التطور شيء موجود بيننا ، فالمرء يستطيع ، و ببساطة أن يُطوّر من ذاته جاعلا من نفسه رساما أو فيلسوفا .
أول الأمثلة هو عملية التهجين بين كائنين ، ومن أشهر هذه الأمثلة هو تزاوج ذكر الأسد و أنثى النمر و الذي أدى إلى ظهور نوع جديد من الحيوانات المسمى ” اللايجر ” ، وزن هذا الحيوان 440 كلغ ويبلغ طوله العشر مترات إذا وقف . أي أن هذا التهجين أظهر سمةً جديدةً جعلته يتفوق على الفصائل المشترِكة في تكوينه .
مثال آخر عن التهجين هو مثال حيوان الكاما ، والذي ينتج عن تهجين بين ذكر الجمل وأنثى اللاما عن طريق التلقيح الاصطناعي ، تعتبر ” الكاما ” كائناً نباتياً يتغذى على جميع النباتات والشجيرات مثل الجمل ويمكنه شرب كميات هائلة من المياه والإحتفاظ بها لأوقات طويلة .
المثالين الأخيرين هما مثالين حقيقيين عن وجود التطور وإستخراج كائنات حية جديدة لم يسبق لها وجود في الطبيعة ، لا يمكن القول أن المثالين الأخيرين هما التطور بحد ذاته والذي يتم عبر آلاف أو مئات ملايين السنين ، لكنهما مثالين حقيقيين عن وجود تطور قال فيه العلماء بأن الإنسان هنا قام بتحفيز التطور الموجود فينا لتحسين النسل أو بعبارة أخرى أن الإنسان قام بتسريع هذا التطور . ومن الدلائل على أنّ الكائنات مرتبطة ببعضها البعض عن طريق عملية التطور هو الحروف التي يتألف منها الدي ان إيه الخاص بها ، والتي يمكن الآن قراءتها بواسطة العملية الكيميائية الخاصة بتحديد تتابع الدي ان ايه . إنّ أنظمة التصنيف البيولوجي المبنية على الخصائص المرئية ، التي طورت على مدار ثلاثة قرون ماضية من دراسة النباتات والحيوانات ، باتت الآن مدعومة من جانب الدراسات الحديثة التي تقارن تتابعات الدي ان ايه والتتابعات البروتينية بين الأنواع المختلفة ، فقياس مقدار تشابه تتابعات الدي ان ايه يمّكِنُنَا من امتلاك مفهوم موضوعي عن العلاقة بين الأنواع .
لا أظن أنه يمكن لحد الآن نكران حقيقة وجود تطور للكائنات أو إنكار نظرية التطور لمجرد أن العالم الفلاني قال بالعكس . بل يجعلني هذا المثال أذكر مجددا تساءل أحد الرجال حين قال : هل قام أحد من الأئمة المسلمين قائلا أن الغرب قام بخلق كائن جديد اسمه اللايجر مثلا ؟ على المرء أن يدرك أن رجل العلم خلافا على رجل الدين يقدم حقائق ملموسة وخير مثال على ذلك هو المقارنة التالية بين إجابات رجل الدين ورجل العلم :
– كيف تم صناعة الكائن المسمى ” لايجر ” ؟
رجل الدين : هي مشيئة الله .
رجل العلم : هو التلقيح الصناعي والتحفيز الجيني .
– ماذا تقول في الشهوة وحب ممارسة الجنس ؟
رجل الدين : هي وسوسة شيطان و فجور نفسي .
رجل العلم : هي هرمونات تحكم الإنسان وتدفعه للبحث عن شريك ، كما أنها تحفزه للتناسل .
كيف قام العلماء بإضـافة أرجل جديـدة للذبـابة المسـماة دروسوفيلا ؟
رجل الدين : هذا يشتمل على شيء خطير وهو تحدي خلق الله .
رجل العلم : هي عملية تسمى بالهندسة الجينية… و هي إخضاع الطبيعة لتحسين النوع ، و محاولة جعل هذا العلم في خدمة فلسفة الإنسان .
ألقى الدكتور – ولز – خطبة في ” المجمع السكني ” سنة 1813 في إمرأة بيضاء تشابه لون الزنوج في بشرتها ، غير أنّ خطبته هذه لم تتم طباعتها حتى تم نشر مقالتيه الشهيرتين : الأولى في ظاهرة ” الندى ” والثانية عنوانها ” الرؤيا الفريدة ” في سنة 1818 ، وهو أول من قرر بوضوح ولأول مرة ، مبدأ الانتخاب الطبيعي في خطبته تلك ، إلاّ أنه أطلقها على السلالات البشرية ، وقصرها على بعض صفاتها دون بعض ، بعد أن بيّن أن الزنوج والخلاسين بهم مناعة من التأثر ببعض أمراض المنطقة الإستوائية لاح بأمرين : أولهما أن الحيوانات كافة مسَوقة إلى درجة محدودة من التحول وثانيهما : أن الزُراع يعملون على تطور دواجنهم بالإنتخاب ، ثم قال : إنّ ما يتم منها إصطناعا ، تتمه الطبيعة في زمن أطول ، ولكن بقدرة متكافئة ، و من ضروب البشر ، من هم أكثر ملاءمة لطبيعة البلاد التي يقطنونها .
وقد أشار – سير جون سبرايت – على أن أحد الحيوانات المنزلية أو الداجنة تختلف في سماتها وصفاتها ، فمنها الضعيف والقوي ومنها ما بين ذلك وقد لاحظ هذا العالم أن الضعيف منها يهلك ولا يبقى في إشارة منه إلى آلية الإنتخاب الطبيعي و الصراع من أجل البقاء بين أفراد النوع الواحد والأفراد المختلفة . الصراع من أفراد النوع الواحد يكون كصراع أسد وضباع على فريسة . الإنتخاب الطبيعي يكون في صالح الأصلح ، يعني البقاء يكون للأصلح . والتطور يكون أحيانا نحو الأفضل و أحيانا نحو الأسوء من أجل التكيف و الإستمرار ، بل أحيانا يكون مجرد اختزال !
العديد من الحيوانات لها أوجه تكيف تساعدها على الهرب من المفترس ، ويعتمد مظهر هذه الحيوانات على المكان الذي تعيش فيه ، فاللون الفضي الذي يتسم به أنواع عديدة من الأسماك يجعل رؤيتها في الماء أكثر صعوبة . وعلى النقيض من ذلك نجد أن قلة قليلة من حيوانات اليابسة لها مثل هذا اللون ، وبعض الحيوانات لها ألوان مُمَوِهة ، تحاكي على نحو إستثنائي أوراق الشجر أو الأغصان أو غيرها من الأنواع السامة أو اللادغة . ومن المواقف التي تتغير فيها البيئة نتيجة التدخل البشري والتي تم رصدها من طرف العلماء ، هو تسبب أنشطة بشرية عديدة أخرى في تغيرات تطورية في الكائنات ، مثلا يبدو أن قتل الأفيال من أجل الحصول على عاجها قد أدى إلى ارتفاع أعداد الأفيال العديمة الأنياب العاجية ، في الماضي ، كانت تلك مجرد حيوانات نادرة تمثل إسثناءات شاذة ، لكن في الوقت الحالي ، في ظل الصيد المكثف ، تستطيع هذه الحيوانات البقاء حية والتكاثر بصور أفضل من الحيوانات الطبيعية ، ونتيجة ذلك تزداد أعدادها داخل تجمعات الأفيال . دليل أخر هو تعدين الرصاص أو النحاس الذي يلوث التربة بهذه المعادن التي يمكن أن تكون سامة للغاية للنباتات ، لكن بجانب هذه الأراضي الملوثة المحيطة بالعديد من المناجم ، انتبه العلماء أنه قد تطورت فيها أنواع قادرة على تحمل المعادن .
إنّ إنقسام الكائنات الحية وتوزعها ثم تعاقب وجودها خلال الأزمنة الجيولوجية ، ينتهي بالبحث إلى أن الأنواع لم تخلق مستقلة منذ البدئ ، كما يمكن ملاحظة التغيرات والإختلافات الكبيرة والصغيرة في أفراد النوع الواحد من خلال الحفريات والترسبات ، مثال على ذلك الأطراف اللاوظيفية لدى الكائنات عديمة الأرجل معروفة بشكل كبير ، وقد عُثِر على حفريات لثعابين بدائية لها أطراف خلفية كاملة تقريبا . نعم ، ثعبان يمتلك أرجل صغيرة ! وهذا الإكتشاف يعزز من فرضية أن الثعابين تطورت على الأرض ، وحاول العلماء عمل شجر عائلية لتحديد الفترة الزمنية التي عاش فيها هذا الثعبان ، عن طريق ترتيب معلومات عن الخصائص الجسدية والوراثية للثعابين الحالية والقديمة ، وبعض الزواحف ذات الصلة . ويعود الثعبان المكتشف وفقا لهذه المعلومات إلى الفترات الأولى لظهور الثعابين الحقيقية . وقال الدكتور – برونو سيمويس – ، الذي يدرس تطور الثعابين في متحف التاريخ الطبيعي في لندن ، أنه منبهر بالإكتشاف الجديد لأن الحفرية حافظت على أطراف الثعبان ، ويبدو أنها تطورت كثيرا ‘ مما يعطينا فكرة عن شكل أسلاف الثعابين الحالية ، وحسب مقاييس الزمن الجيولوجية فإن حفرية هذا الثعبان يعود أصلها إلى 100 مليون سنة .
في النهاية أذكر القارئ أن نظرية التطور من أجمل النظريات التي مرت علي ، ورغم أنه يستلزم الكثير والكثير من الوقت لفهمها و دراستها إلاّ أن القارئ غاص ولا شك أنه سيغوص في بحر مختلف الألوان من الأدلة العلمية بإختلاف مذاهب أهلها . وسيتعرّف على الكثير من الأدلة التوحيدية التي يتقرب بها المرء من ربه و سيستخلص الكثير من قدرات الخالق البارئ في تصميم هذا الكون !
اقرأ أيضا:
مفاهيم خاطئة عن نظرية التطور: النظرية لا تقول إطلاقا أن الإنسان تطور من القردة
ما الفرق بين النظرية العلمية والفرضية، وبين القانون العلمي والحقائق العلمية
مراجع:
التطور: مقدمة قصيرة جدا (Evolution: A very short introduction)
مقال مفيد و مقنع جدا، فعلا نظرية التطور مثيرة للإهتمام لكن للأسف الكثير من الناس لديهم مفاهيم خاطئة عن هذه النظرية.