في جوف هذه المرحلة الهائلة من التقدم العلمي لا بد أن يكون المرء حامدا لأن الله إنتخبه ليختبر مرحلة حياتية لم تتح فرصة لأناس قبلنا بإختبارها ، و هي مرحلة التقدم العلمي التي و من خلالها يمكن أن يلتمس المرء – و بطريقة مادية – معنى أن الرّب قد أكرم عباده بنعمة العلم . من المستحيل على المرء أن يستوعب ، أو أن يفهم أسس علمية سابقة لزمانه ، فقبل أجيال من جيلنا الحالي لم يكن بإستطاعة الإنسان تصوّر ما سيؤول إليه العلم أو كيف سيتطور ، أو كيف ستكون أدواته . بل حتى أنه يمكن أن يتم ملاحظة الفوارق العلمية بين جيلين من أجيال البشر من نفس الزمان و المكان . و لو قمنا مثلا بنقل أحد التابعين إلى عصرنا الحالي لصرّح تحت صدمة نفسية قائلا أنّ ” السحرة قد غزوا أرض المسلمين ” ، أو أن يقول أنه إذا لم تتم إعادته لزمانه فسيصاب بسكته قلبية .
لا يخفى على المرء اليوم أنّه بفضل التطور العلمي ، و بفضل الله يتم إعادة تصميم الكائن البشري بإستخدام تقنيات متناهية الصغر أو تعزيز جذري بإستخدام مجموعة من الأدوات مثل الهندسة الوراثية و علم الأدوية و علاجات مكافحة الشيخوخة و الواجهات العصبية و أدوات إدارة المعلومات المتقدمة ، و عقاقير تحسين الذاكرة و الأجهزة القابلة للإرتداء و الحواسيب المزروعة وأبحاث الخلايا الجذعية والطب النووي و غير ذلك . لقد إستخدم الإنسان ذكاءه لمعالجة عجزه البيولوجي واستخدم التكنولوجيا لمعالجة الكثير من العيوب التي تلحق به ، إذ عالج ضعف النظر من خلال العدسات والعمليات الجراحية ، وقام بوضع تقويم الأسنان و كذلك إعادة زرعها ، وانتهى به الأمر أيضا إلى عمليات التجميل ، و حين أراد أنصار العلم الحديث إستبدال العين بعين أخرى تشتمل على إمكانيات للنظر غير متوفرة في العين البشرية ، قام العلماء بإكتشاف الأشعة تحت الحمراء . الأمثلة لهذا كثيرة جدًا ، فرغبة العلماء لا تنتهي ، كقيامهم مثلا بعملية التحويل الجنسي ، أو تطوير عقاقير تزيد من قابلية التعلّم و قدرة التذكر لدى الانسان * ، أو حتى محاولة تقطيع كائن حي إلى مئة قطعة وإعادة استنساخه من كل قطعة ! و من الأسئلة الأكثر تداولا في المجتمع العلمي قولهم أين سيؤول أو إلى أين سينتهي هذا التطور العلمي وما هي إنعكاساته على الإنسان ؟ والكثير الكثير من الأسئلة المماثلة . وللإجابة عن هذه الأسئلة برز فلاسفة العلم الذين ينصب اهتمامهم في الإجابة عن هكذا أسئلة في شتى الميادين العلمية المختلفة.
البيوتكنولوجيا و سعادة الإنسان
لطالما حاول الكُتاب ذوي النضرة النقدية أن يستبصروا الواقع العلمي- السياسي المستقبلي و كم من مرة نجحوا في ذلك . يقول الكاتب – فرانسيس فوكوياما – و الذي هو عالم و فيلسوف و إقتصادي وسياسي ومؤلف وأستاذ جامعي أمريكي إزاء علم البيوتكنولوجيا : ” علينا أن نلجأ إلى سلطة الدولة لتنظيمها ، فإذا ما اتّضح أن هذا يفوق قدرة أي دولة بمفردها ، فلا بد أن يكون التنظيم على المستوى الدولي ، علينا أن نبدأ التفكير بشكل واقعي حول الطريقة التي نقيم بها مؤسسات قادرة على أن تميز الإستخدام الطيب والإستخدام الخبيث للبيوتكنولوجيا ، و أن نفرض بشكل فعلي قوانين وطنية وقوانين دولية ” . يشير فوكوياما من خلال كلامه إلى حقيقة أن العلوم تطورت بشكل خطير حيث يجدر على الإنسان أن يكون مستعدا للسيطرة على هذا التقدم العلمي الخطير المسمّى البيوتكنولوجيا والذي هو علم يبحث في المستوى الخلوي وتحت الخلوي للكائنات الحية من أجل تحقيق أقصى استفادة منها عن طريق تحسين خواصها وصفاتها الوراثية ، و ما يحمله ذلك من عواقب . كما يشير فوكوياما إلى وجوب تحديد مسؤولية القاضي والمحامي والطبيب و المعلم وكل من يملك فعالية حقيقية في المجتمع لمواجهة ذنوب السياسي .
الهندسة الوراثية والتحكم في صفات الكائن الحي
لقد تبيّن العلماء أن الصفات الوراثية لا بد ناشئة عن وحدات ولقد تبيّن فيما بعد صدق النبوءة حيث اكتشف العلماء أن هذه الوحدات الوراثية هي الجينات ، ثم تبينوا أن الجينات ليست سوى برنامجا محدد على شريط وراثي و أن كل جين مسؤول عن إكساب الكائن الحي صفة محددة . ومن التنبؤات العلمية المستقبلية المثيرة و المخيفة في آن واحد هو إستطاعة الإنسان تخليق * سلالة بشرية تتغذى على الطاقة الشمسية ، وتقوم بعملية التمثيل الضوئي !؟ قد تكون نبوءات المجتمع العلمي أقرب إلى الخيال إلاّ أنّ تحقيق الخيال شيء طبيعي جدا تعوّد الإنسان ممارسته ثم تحقيقه ، خصوصا بعد أن قاموا بتطوير صفات في الحيوان وإنشاء أنواع جديدة منه ، وكذا تعديل ثم تكوين نباتات وفواكه لم يكن لها وجود سابقا .
هناك وحدة مشتركة في الخلق تجمع بين جميع الكائنات ، هي الخلية الحية ، فكل الكائنات من خلايا ، كلها تنشأ من خلية واحدة وعلى هذه الخلية أو تلك إنصبّت بحوث العلماء وتطورت تطورا خطيرا . أدّت رغبة العلماء إلى الخلط بين المكونات الوراثية الموجودة في النبات الأخضر بالمكونات الوراثية الموجودة في الحيوان فنشأ عن ذلك خلية هجينة تجمع بين صفات كائنين مختلفين ثم تطوّر البحث إلى فكرة الجمع بين صفات إنسان و نبات . تشير البحوث أنه ستختلط هذه الصفات الوراثية لتعطي أجيالا مختلفة الطباع والشكل والصفات ، ولكنها تتميز جميعا بالصفة الكلوروفية التي تجعلها ذاتية التغذية ، الفكرة قد تبدو غير معقولة ، ولا منطقية ، إذ سيصبح هذا النوع من البشر إنسانا في نبات ، أو نباتي إنساني . إنّ الفكرة لم تنشأ من فراغ ، ولا هي من نسج الخيال ، لكن لها أصولا تنبع منها وترتكز عليها و هذه الأصول موجودة في الحياة ذاتها ، ولكي نوضح ذلك كان لا بد أن نتعرض للأساس الذي تبنى عليه التنبؤات ، وما حققه العلماء من إنجازات في عصرنا الحالي . وهذه الفكرة ليست تنبؤية بل موجودة في الطبيعة ، فلقد وجد العلماء أن نوع من هذا التهجين موجود بالفعل منذ ملايين السنين ، فالكائن المعروف الذي يسمى – يوجيلنا – بعث الحيرة في علماء تقسيم مملكة الحيوان ، فبعضهم اعتبره من ضمن النباتات و منهم من يعتبره ضمن الحيوانات . وكلاهما على حق فيما يذهبان إليه لأن هذا الكائن يحيا حياتين ، فهو يتغذى تغذية حيوانية ، بمعنى أنه يعيش على المادة العضوية ، فإذا لم يجد هذا المصدر ميسرا ، انقلب إلى طريقة التغذية النباتية ، أي أنه يقوم بعملية التمثيل الضوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء ، فهو يمتلك في مادته الحية أجساما بيضية تحتوي على مادة الكلوروفيل التي تقوم بتثبيت الطاقة الشمسية و تحويلها إلى طاقة كيميائية ، وهذه الأجسام البيضية نعرفها بإسم البلاستيدات الخضراء .
الكثير من البحوث و التجارب خلفت معطيات كثيرة تساعد على الفهم الأعمق وكل هذا وغيره سوف يؤدي إلى تحوير وتعديل وتطوير في البرنامج الوراثي للإنسان ذاته ليكتسب صفات جديدة ومميزة عن إنسان العصر الحالي . إنّ ما حققه العلماء وما سيحققونه مستقبلا قد يؤدي إلى إنتاج سلالة بشرية جديدة تدخل في تكوينها الوراثي بعض الصفات النباتية المرغوبة ، ويعني هذا ببساطة أن الإنسان الحالي قد يتحول مستقبلا إلى مخلوق أخضر يستفيد من الطاقة الشمسية أو الضوئية استفادة مباشرة ويكوّن بها غذاءه ، ويصبح ذاتي التغذية كالنباتات تماما * . والواقع أنّ كل إنجاز علمي كبير له سمات ومقدمات ، وغالبا ما تكون البداية متواضعة ، لكنها تتطور إلى الأحسن والأتقن دائما ، ومادامت الفكرة قد برزت للضوء فإنّ ذلك قد يفتح الباب أمام العلماء لتطبيقها مستقبلا على الإنسان .
الهندسة الوراثية وآخر التقدمات
إنّ التقدم الهائل التي أحرزته العلوم البيولوجية الأخرى ، خاصة الفرع الجديد الذي يطلق عليه إسم الهندسة الوراثية ، ثم اهتمام الدول بمثل هذا العلم وحشد جيش هائل من العلماء الأفذاذ ، ورصد ميزانيات ضخمة للقيام بمثل هذه البحوث ، كل هذا وغيره يجعلنا نتنبأ بإمكان زرع جينات نباتية في أخرى إنسانية وتشغيلها في جهازها الوراثي ، ثم رعاية هذه الخلية لكي تتقاسم وتتكاثر ثم يتم زرعها في رحم أنثى ، يتمخض عن ذلك تكوين جنين يولد بعد تسعة أشهر وعند ولادته قد يرضع بضعة أشهر ، وعند تعريض بشرته إلى ضوء مناسب ، تبدأ البلاستيدات الخضراء في التكاثر ، وعندئذ يكتسب الطفل اللون الأخضر شيئا فشيئا إلى أن يصبح نباتا في إنسان ، أو إنسانا في نبات ، وبهذا يتحول الخيال إلى حقيقة وتكون بداية حقيقية لنوع جديد من البشر يقوم بعملية التمثيل الضوئي ، مستخدما في ذلك غاز الأوكسيجين الذي يعطيه دفعة جديدة لأكسدة السكريات المتكونة ، لتهبه طاقة وحيوية ويصبح بذلك وبفضل التعديلات الوراثية الأخرى في قوة كينغ كونغ العجيب !
ولا بد أن نشير هنا إلى أنّ الصعاب التي ستقابل العلماء للتوصل إلى هذا الهدف العظيم ضخمة جدا ، لكن يبدوا أن أسرار الحياة قد بدأت تفصح لنا عن مضمونها بسرعة مذهلة ، فعمر بحوث هندسة الوراثة لا تزيد عن ثمانية أو تسعة أعوام ، ومع ذلك فقد حققت أهدافا رائعة ، أضف إلى هذا أنّ الإختراع يد الحاجة ، وهذا لا يعني أن العلم سيخترع إنسانا جديدا ، بل يعني أنّ حاجة العالم المتزايدة إلى الطعام قد تدفع العلماء دفعا إلى توليفة جديدة تتمخض عن إنسان أخضر ، و إذا توصل العلماء الى هذا الهدف فسوف يكون أعظم إنجازات البشرية على الإطلاق ، لأنّ الإنسان الأخضر سوف يصبح مخلوقا ذاتي التغذية ، بعيد كل البعد عن استهلاك كميات كبيرة من اللحوم والخبز و الخضراوات وماشابه ذلك . وكل هذا بلا شك سوف يؤدي إلى إختفاء المجازر ، و إقفال المخابر و إيقاف المطاحن و إغلاق المطاعم ، فقد انتهى عمر الأسنان القاضمة و البطون الجائعة ، و ما يخرج من هذه البطون من فضلات كانت عاملا من عوامل التلوث الطاحنة .
لقد بدأ العلماء في تخطي حدود الطبيعة ، وكأنما قد بدؤوا لعبة غريبة بكل حماس على الرغم من أنها تشتمل على درجة كبيرة من الخطورة وحماسهم هذا ما هو إلاّ نتاج شغفهم الهائل إلى المعرفة والكشف عن مزيد من أسرار الطبيعية للتحكم فيها نهائيا . و إدراج مثال الرجل الأخضر كان فقط محاولة لتوضيح الصورة للذين لا يعلمون شيئا عن البحوث الخطيرة التي تندرج ضمن علم – الهندسة الوراثية – وأبحاثها التخليقية التي قد تُغيّر الكثير من المعالم في حياة الإنسان . والبحوث التي تمت في هذا المجال خلّفت الكثير من المعطيات الإيجابية لمستقبل هذا العلم ، والتي تصيب العقل بالدوار ، وهناك مئات المعامل في معاهد البحوث والجامعات ، وهناك عشرات الألوف من العلماء الذين يبحثون في هذه الأسرار ليل نهار ، ونحن بطبيعة الحال لا نستطيع التعرّض لها ولتفاصيلها في مقال.
الإنسان الخارق و السيطرة على الطبيعة
يقوم نيتشه بتقديم تعريف جديد للإنسان المتفوّق في كتابه زرادشت قائلا : ” ما القرد بالنسبة للإنسان ؟ أضحوكة ، أو موضوع خجل أليم ، هكذا يجب أن يكون الإنسان بالنسبة للإنسان الأعلى ، أضحوكة أو موضوع خجل أليم ” . و كلام نيتشه هنا ليس إلاّ استبصار ، ونظرة سابقة لزمانها ، ثم تشجيع و تقديس لفكرة الإنسان الخارق أو الإنسان السوبرمان الذي كان و لا يزال الإنسان يسعى إلى تحقيقه . لا يزال الكثير من الجهلة يقفون في صف الجهل ويقولون بأن هذه التنبؤات ليست سوى شطحات خيال ، لكن التجارب الإنسانية علمتنا أن التنبؤات العلمية ليست بدعة ، وإنمّا هو أمر طبيعي وليس رجما بالغيب . لقد استمرّ التطور العلمي بمختلف مجالاته ، ومن أكثر المجالات خطفا للإهتمام أيامنا هذه ، هو الهندسة الوراثية . ولاشك أن هذا التقدم سيرافقه تقدم في علوم أخرى منها المواد التأملية و القدرة على تصويب التفكير و تفجير القوى الذهنية لطلب السعادة بمفهوميها الفلسفي و العامي . ولا شكّ أن المجتمع الديني سيقف في وجه هذه التطورات كعادته قائلا : لا حاجة لنا في تثبيت إرادة القوّة ولا أن يكون الإنسان الأعلى هو حاكم الأرض الحقيقي .
يقول توفلر و هو كاتب ومفكر أمريكي في مجال المستقبليات أنه ” بإستطاعة الإنسان أن ينشئ أطفالا فائقي حدة البصر والسمع والشم وفائقي البنيان الجسماني أو الأداء الموسيقى . سنستطيع تخليق بشر بمؤهلات أرقى ، فتيات مثلا بصدور ذات مقاسات غير عادية ” . فهل سيتكفل العلماء مجددا – شكر الله سعيهم – في إنتاج سلالات بشرية جديدة أرقى من الإنسان الحالي من حيث مستويات و مقاييس الجمال الجسدي و النفسي ، واضعين حدا لمركبات النقص ، ثم جاعلين كل الناس متساوين خصوصا و أنهم كشفوا الطريقة نحو ذلك ؟ لست أقول من هذا المقال أن الإنسان المتفوّق هو إنسان شرير سيكوباتي كافر أو بخيل وإنّما أقول أنه إنسان أقرب إلى الملائكية منه إلى الانسانية ، إنسان أعلى متصالح مع ذاته ، متوازن نفسيا ، متفوق على ذاته ثم حيوانيته . تنفتح جميع مجالات الإحساس أمامه وتتوسع بحكم إكتشافاته . لكن دعنا عزيزي القارء لا نسبق الأحداث ، ودعنا نتوقف عند السؤال القائل هل يمكن حقا أن يأتي يوم أين يمتلك كل إنسان مؤشرا للحقيقة يملي على صاحبه كل الخطوات الصحيحة وكل ذلك على هيئة ملاك بيوتكنولوجي يسقط عنّا بعض النواميس لنبلغ من القوة ما يجعلنا أمناءا خالدين ! أو حتى أن يتيح لنا فرصة إسقاط الخير و الشر أو أي تثنية متفوقين على ذواتنا مدركين لأزليتنا مرتقين إلى درجة أقرب إلى الخالق تحت إسم العلم ، فالعلم لا شك أنه القيد الوحيد لآلاف الأعناق .
مراجع :
- تخليق : ليس بمعنى خلق و إنما تعديل أو تحسين .
- كتاب – التنبؤ العلمي ومستقبل الانسان – عبد الحسن صالح .
- كتاب – نهاية الإنسان – فرانسيس فوكوياما .