ليس من الغريب أن نجد في بلداننا العربية، التي لا تهتم بالمجال العلمي مقارنة بالمجالات الأخرى، انتشارا واسعا لما يسمى ب “العلوم الزائفة” التي تدّعي أنها علوم حقيقية وأنها مُتبثة بالتجارب والإحصائيات والقياسات …الخ، بل وأحيانا يُصدّقها الناس دون حتى التحقق من هذه التجارب أو القياسات، مرتكبين بذلك بعض المغالطات المنطقية البسيطة التي سنأتي لذكرها في الفقرات القادمة.
لكن قبل ذلك، علينا أولا الاشارة إلى الطرق الصحيحة من أجل التفريق بين ما هو علمي وبين ما هو زائف. وللقيام بذلك، علينا أن نمر ببعض المصطلحات المهمة التي من شأنها توضيح الرؤية لأي شخص بأن يفهم جيدا ما نقصده بالعلوم.
تحدثنا في مقال سابق تحت اسم الفرق بين الفرضية والنظرية العلمية، وقد أشرنا في المقال إلى مصطلحات مهمة كالمنهج العلمي التجريبي التي تمر عليه أية فرضية قبل أن تصير نظرية علمية.
ما المقصود بالمنهج العلمي التجريبي ؟
المنهج العلمي التجريبي هو المنهج الذي يتّبعه أي عالم أو باحث في مجال معين من مجالات العلوم، وذلك من أجل إتباث صحة فرضية أو فرضيات قام الباحث بوضعها قبل البدء في التجربة، وينتهي هذا المنهج في الأخير بتحويل الفرضيات وتجميع الحقائق العلمية إلى نظرية علمية تكون قد مرت بكل أنواع التجارب والقياسات وبكل المعايير التي تضعها هذه المنهجية.
وكما تفعل في كتابة رسالة إلكترونية مثلا، فإنك تتبع منهجية لكتابة هذه الرسالة (الاسم، كتابة الموضوع، معايير معينة …الخ) فنفس الشيء في العلوم، فلإتباث صحة فرضية ما، على الباحث أو العالم أن يستخدم هذا المنهج العلمي بكل المعايير الذي تتطلبها كل مرحلة، خاصة مرحلة التجربة.
–> اقرأ المزيد عن المنهج العلمي
إذا فهمت جيدا دور المنهج العلمي في العلوم، فستتمكن بسهولة من اكتشاف العلوم الزائفة ومن التفرقة بين ما هو علمي صحيح وماهو خاطيء وغير علمي. لكن بالرغم من ذلك، على القارئ أن يعلم ببعض المبادىء الأساسية في العلم، فالعلم ليس مجرد كلام أو دلائل أو أمثلة كما يدعّي أصحاب ومُروّجي العلوم الزائفة، وكي لا نطيل عليك، سنشارك معك 3 مبادىء مهمة وأساسية في العلوم:
peer-review
ليس هناك مصطلح دقيق لهذه الكلمة بالعربية، يمكن ترجمتها ل “مراجعة النظراء ” أو” مراجعة المختصين” وهي مراجعة وتدقيق يقوم به أهل الإختصاص في مجال معين لورقة بحث علمية أو لتجربة علمية قبل نشرها لعامة الناس، وتتم هذه العملية بشكل رسمي سواء من قبل جمعيات أو أكاديميات علمية أو من قبل مجلات علمية موثوقة.
تعتبر هذه المراجعة من المبادىء الأساسية في العلوم، فبدون مراجعة ورقة بحث علمية من قبل مختصين يعني أن هذه الورقة لا يمكن الاعتماد عليها وليس بالضرورة أن تكون المعلومات بها دقيقة وصحيحة، وكما سبق وأوضحنا هذا الأمر في مقال عن المصادر الموثوقة، فالباحث أو العالم الذي يرغب في نشر ورقة بحث علمية، عليه دائما أن ينشرها في مجلة علمية تفرض مراجعة وتدقيق قبل نشر البحث.
وبالتالي، من أجل معرفة العلوم الحقيقية من العلوم الزائفة، فقط ابحث عن المجلة العلمية التي نشرت البحث المراد معرفته، مثلا إذا كنت تريد أن تعرف هل الحجامة تشفي الأمراض، كلما عليك فعله هو البحث في مجلة علمية موثوقة و(peer-review) عن مقال عن الحجامة، إذا لم تجد ولا مقال يتحدث عن الحجامة، فبالتالي هي مجرد علوم زائفة، ولا يمكن الاعتماد عليها في المجال العلمي، أما إذا وجدت مقال يتحدث عن هذا الأمر فعليك دائما أن تتأكد من موثوقية المجلة أو الموقع الذي نشر البحث.
غالبا العلوم الزائفة لا تُنشَر في مجلات علمية موثوقة، لأن هذه المجلات تتطلب شروط صعبة ومراجعة دقيقة من قبل مختصين من أجل نشر ورقة بحث علمية، وبالتالي فلن تجد في أي مجلة علمية موثوقة مقالات عن التنجيم أو أن الأرض مسطحة وغيرها من الخرافات.
قابلية الدحض
بالانجليزية “falsifiability“، ويقصد بها كما يقول معناها الحرفي أن تضع أي شيء علمي في إطار أنه قابل للدحض، وقد جاء بهذا المفهوم الفيلسوف كارل بوبر إذ أوضح أن العلم إذا لم يكن قابلا للدحض فهو ليس علم حقيقي، وبالتالي فهو مجرد علم زائف.
إن أهمية هذا المبدأ في المجال العلمي هو تطويره للأفضل وتصحيح الأخطاء العلمية إذا وُجدت، فتطور العلوم يأتي من قابليتها للدحض، وبدون دحضها فلا يمكننا أن نتطور (طبعا الدحض يكون له معايير معينة كإعطاء أدلة تدحض بحث معين أو مقال معين أو حتى نظرية علمية معينة).
وهذا الأمر لا نجده إطلاقا في العلوم الزائفة، فهي لا تقبل الدحض أو التكذيب أو حتى النقد أحيانا، وبالتالي فالعلوم الغير قابلة للدحض هي مجرد علوم زائفة ولا يمكننا الاعتماد عليها.
المشكلة أنه حتى لو حاولت دحض هذه العلوم الزائفة، فلن يتم ذلك بشكل رسمي كأن تدحض ورقة بحث علمية، لأن هذه العلوم لا تُنشر أصلا في مثل هكذا مجلات علمية موثوقة، وهذا ما يجعلنا نفكر في تغيير تسمية “علوم زائفة” من الأساس، وأن نغير إسمها إلى “خزعبلات” أو “خرافات علمية” أو شيئا من هذا القبيل.
قابلية إعادة التجربة
يسمى بالانجليزية “Reproducibility” وهو مبدأ جد ضروري في العلوم إذ يتيح لعلماء آخرين أن يكرروا التجربة أو التجارب التي سبق وتم تفعيلها من أجل إثبات فرضية معينة، ويكون الهدف الرئيسي هو التدقيق ومراجعة التجربة والنظر في كل المعايير التي تتطلبها نجاح التجربة.
وكما سبق وأشرنا في مقال المنهج العلمي وخاصة في المرحلة التي تشرح التجربة، أن للتجربة متغيرات مهمة، وأهم هذه المتغيرات هو متغير التحكم، حيث كلما كان هذا المتغير دقيق ومختار بعناية كلما زاد ذلك من نجاح التجربة وإثبات الفرضيات المرغوبة.
في إعادة التجربة، يقوم العلماء بتغيير هذه المتغيرات لمعرفة ما إذا كانت النتيجة ستكون نفسها في كل مرة، وأيضا فحص هل التجربة تمت بكل المعايير المطلوبة أو تم التلاعب فيها للحصول على نتيجة مرغوبة … وغيرها من الأمور، وبالتالي فقابلية إعادة التجربة تضمن صحة البحث العلمي وصحة المعلومات التي يشير إليها.
وعكس ما نجده في العلوم الزائفة، فهي لا تقبل إعادة التجربة (هذا لو كان لها تجربة من الأساس) ودائما ما تجد مُروِّجي هذه العلوم يتهربون من هذا المبدأ ويرفضون إعادة التجارب أو إعطاء الفرصة للعلماء والباحثين بإعادة التجارب.
العلوم الزائفة والمغالطات المنطقية
من بين المغالطات المشهورة التي يقوم بها مُروّجي العلوم الزائفة هي مغالطة الاحتكام إلى الأمثلة، وهي مغالطة فادحة، لأن العلوم لا تعتمد على الأمثلة ولا يمكن أن تكون الأمثلة هي الدليل الذي يتبث نظرية ما أو بحث ما أو معلومة ما.
مثال: لنفترض أن فلان مروج لعلوم زائفة، إذ قال أن لديه مشروب قام بصنعه في المنزل بوصفته السحرية، وادّعى أن هذا المشروب يشفي من الأمراض، وكدليل على كلامه، قام بإعطائنا أمثلة عن 20 مريض اشتروْا المشروب وأصبحوا أصحاء بفضله.
في المثال أعلاه لا تعتبر الأمثلة دليلا على فعالية هذا المشروب، لأن الشخص يحتكم إلى الأمثلة ويختار الأمثلة الناجحة فقط، وهي مغالطة منطقية إذ على الشخص أن يعطي جميع الأمثلة (مثلا 20 شخص نجح معهم المشروب و500 شخص لم ينجح معهم المشروب) فحينها سيكون كلامه منطقيا، وطبعا حتى لو كان كلامه منطقيا فهذا لا يعني أنه كلام علمي.
أمثلة واقعية:
– بول البعير يشفي الأمراض لأن فلان وفلان وفلان جرّبه وقد شفاه من المرض.
– دورة فلان في التنمية البشرية رائعة، كل أصدقائي نجحت معهم الدورة وأصبحوا ناجحين في حياتهم.
– الحبة السوداء تشفي الأمراض لأن فلان وفلان وفلان جرّبها وقد نجحت معه.
هناك العديد والعديد من المغالطات المنطقية الأخرى، أدعوك لقراءتها في هذا المقال (المغالطات المنطقية المشهورة) لأنني لن أتوقف عن الحديث عنها هنا وسيكون المقال طويلا ومُملّا على القارىء.
خلاصة المقال
أصبحت العلوم الزائفة منتشرة ليس فقط في مجتمعاتنا العربية التي لا تهتم بالمجال العلمي وإنما في العالم ككل، ولتفادي هذه العلوم وعدم الأخد بها والاعتماد عليها، كلما عليك فعله هو طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة علمية، ابحث عن المجلة العلمية التي نشرت البحث العلمي وإذا ما وجدت هذا البحث منشور فعلا في مجلة علمية، فابحث أكثر عن المجلة لمعرفة ما إذا كانت موثوقة أو مجرد مجلة أهمها الربح فقط، كما أدعوك أيضا لقراءة هذا المقال (المصادر العلمية الموثوقة) الذي سينفعك في معرفة ما إذا كانت المعلومات صحيحة أم خاطئة.
جميييل .. لكن طرأ ببالي سؤال، هناك علوم لاتستند على المنهج العلمي مثل اللغويات وعلم الاجتماع والسياسيه والنحو وغيرها فجميعها لاتُعد من العلوم التجريبية، فكيف يتم اعتمادها وتوثيقها ؟
جميع العلوم تعتمد على المنهج العلمي، وإن اختلفت في بعض مراحله، أو طريقة استخدامه (وغالبا ما تختلف في طرق التجربة). بالنسبة لعلم الاجتماع على سبيل المثال، يختلف عن باقي العلوم في التجربة. فالتجربة في علم الاجتماع تكون بمتغيرات جد عديدة، وتعتمد على الهدف وراء القيام بالتجربة، وغالبا ما تعتمد الدراسات العلمية في علم الاجتماع على نظريات طرحت من قبل كالنسق الاجتماعي، نظرية الصراع، نظرية التفاعل الرمزي، الماركسية … الخ. ولا يمكن قبول أي نظرية جديدة إلا إذا كانت هذه النظرية قد اعتمدت بشكل صحيح المنهج العلمي.
المنهج العلمي عموما يتكون من 6 مراحل:
1. الملاحظة
2. طرح تساؤلات
3. وضع فرضيات
4. التجربة
5. تحليل البيانات
6. النتيجة
بالنسبة للعلوم السياسية فهي تخصص للعلوم الاجتماعية، مما يعني أنه يعتمد في كثير من نظرياته على العلوم الاجتماعية (مثلا نظرية ماركس في سياسة الاشتراكية) أو حتى الفلسفة أحيانا، مثلا فلسفة أفلاطون في الجمهورية. وبالنسبة لعلوم اللغة (اللسيانيات) فلها عدة تخصصات، هناك مثلا لسانيات اجتماعية والتي تعتمد على دراسة تأثير المجتمع على اللغة أو علم النفس اللغوي الذي يعتمد على إيجاد الترابط بين اللغة والجوانب النفسية، وكل هذه التخصصات لا يمكننا البحث فيها دون طرح تساؤلات ووضع فرضيات، التي سنتبث صحتها بالتجربة.
إذا لم تقرئي مقال المنهج العلمي فننصحك بقرائته.
شكرا جزيلا على التعليق.