تتمحور الفلسفة العبثية حول مناقشة معنى الحياة ومحاولة إيجاد حل فلسفي أو وجودي لمعضلة إنعدام هذا المعنى. فلو كانت الحياة بلا معنى كما تشير هذه الفلسفة، فإننا سنصطدم في الأخير مع مشكلة الحياة نفسها، وهي مشكلة الوجود بحد ذاتها، والتي ستجعلنا نطرح مشكلة الإنتحار ـ الذي يعتبر إلى حد ما حلا عقلانيا للتعامل مع اللاجدوى واللامعنى.
تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى معرفة الفلسفة العبثية، والفرق بينها وبين فلسفتا الوجودية والعدمية، كما وأظهرنا انطلاق هذه الفلسفة وانتشارها في كل من المسرح (المسرح العبثي) وكذا في الأدب (الروايات ذات النمط العبثي، كروايات فرانز كافكا).
في هذا المقال، سنناقش بشكل أكثر تفصيلا هذه الفلسفة، وسنناقش بالتحديد الكتاب، الذي اشتهرت به هذا الفلسفة، وتم إعادة إحيائها، كتاب “أسطورة سيزيف” للكاتب والفيلسوف ألبير كامو، ويعتبر هذا الكتاب بمتابة المرجع الأساسي لفهم هذه الفلسفة وكذا الإطلاع على تاريخ ظهورها أول مرة مع الفيلسوف الوجودي سورين كيركيغارد.
كتاب أسطورة سيزيف
نُشر الكتاب أول مرة سنة 1942 بلغته الأصلية الفرنسية تحت عنوان “le mythe de sisyphe”، ثم تُرجم لاحقا إلى اللغة الإنجليزية سنة 1955، ويناقش الكتاب الفلسفة العبثية من وجهة نظر ألبير كامو، بالإضافة إلى بعض المقالات لمواضيع أخرى.
يشير عنوان الكتاب “أسطورة سيزيف” إلى أسطورة يونانية قديمة، حيث تم فيها معاقبة سيزيف من طرف الإله زيوس بسبب خداعه لملك الموت. كانت عقوبة الإله زيوس هي أن يقوم سيزيف بحمل صخرة إلى أعلى الجبل، لتقوم الصخرة في النهاية بالتحدرج إلى الأسفل، ثم إعادة حملها مجددا إلى الأعلى، وتكرار هذه المهمة إلى الأبد ودون توقف.
استخدم ألبير كامو هذه الأسطورة بنهاية كتابه، حيث قارن بها الحياة العبثية التي يعيشها البشر مع المهمة الخالية من المعنى التي عوقب بها سيزيف.
يناقش الكتاب عدة مواضيع متفرعة أخرى، أهمها فكرة الإنتحار، الإنتحار الفلسفي، اليأس، اللامعنى، التكرار، والعبث، وغيرها من الأفكار التي سنتطرق إليها في الفقرات القادمة.
العبثية والإنتحار
قام ألبير كامو بمناقشة الإنتحار كموضوع ضروري وطارئ، والذي يرى أنه أكثر المواضيع الفلسفية أهمية، فقد اعتبر كامو أن الإنتحار مشكلة فلسفية وجودية مهمة أكثر مما هو مشكلة نفسية واجتماعية.
يبدأ كامو نقاش الإنتحار بطرحه لسؤال مهم: كيف يمكننا قبول عبثية الحياة وانعدام معناها؟ وكيف لنا أن نعيش هذه الحياة الخالية من المعنى؟ أو بصيغة أخرى، هل تستحق هذه الحياة أن تُعاش رغم خلوها من المعنى والجدوى؟
يؤكد كامو أن مشكلة الإنتحار هي أهم مشكلة فلسفية، حيث قال:
ليست هناك سوى معضلة فلسفية واحدة ألا وهي الإنتحار. الحكم فيما إذا كانت الحياة جديرة بالعيش أم لا، هو الإجابة على السؤال الأساسي للفلسفة. كل القضايا الأخرى تأتي لاحقا.
ليست هناك سوى معضلة فلسفية واحدة ألا وهي الإنتحار. إن الحكم فيما إذا كانت الحياة جديرة بالعيش أم لا، هو الإجابة على السؤال الأساسي للفلسفة، وكل ما تبقى من أسئلة أخرى من قبيل هل للعالم الذي نعيش فيه ثلاث أبعاد أم لا، أو هل للعقل 9 أو 12 فئة ـ يأتي بعد ذلك.
لو ألقينا نظرة عن مشكلة الإنتحار، فسنجد أنها فعلا مشكلة فلسفية كبرى، خاصة الآن، مع حقيقة أن ما يقارب 700 ألف شخص يموتون كل عام بسبب الإنتحار، حسب آخر الإحصائيات التي تقوم بها منظمة الصحة العالمية. هذا يعني أن في كل 40 ثانية، يقوم شخص في مكان ما في هذا العالم بقتل نفسه، وبمجرد أن تنتهي من قراءتك لهذا المقال، سيكون عشرات أو ربما مئات الأشخاص الذين انتحروا وقرروا إنهاء حياتهم. إنه فعلا لأمر جد مؤسف!
يرفض كامو الإنتحار كخيار للهروب من عبثية الحياة، قائلا أنه لا يوجد شيء في العالم يستحق الموت من أجله. حتى جاليليو جاليلي، الذي قادته الكنيسة إلى حبل المشنقة عندما طرح فكرة أن الأرض تدور وأنها ليست مركز الكون، قد نفى هذه الفكرة جملة وتفصيلا في اللحظة التي علم فيها أنه سيفقد حياته. يقول كامو: ما أهمية معرفة أن الأرض تدور أم لا؟ فلا أحد يهتم بهذا عندما يتعلق الأمر بفقدان حياتنا!
وتسائل كامو أيضا ـ لتعزيز فكرته حول عبثية الإنتحار ولا جدواها ـ عن سبب عدم تمكن بعض الفلاسفة من الإنتحار، مع أنهم كانوا يدعون الآخرين إلى الإنتحار ويؤيدون هذه الفكرة.
إذ يقول في هذا الصدد أن السبب الرئيسي وراء عدم القدرة على الإنتحار هو غريزة العيش والبقاء النابغة من أجسادنا، وقد قال كامو “نكتسب عادة البقاء قبل اكتسابنا لعادة التفكير“.
ومن هذه المقولة، نستطيع الفهم أن لأجسادنا غريزة البقاء، وهي مزروعة في جيناتنا منذ القدم، الشيء الذي يعني بكلمات أخرى أنه إذا كان الجسد أقوى من العقل، فسوف يرفض هذا الأخير ـ بشكل غريزي ـ فكرة الإنتحار.
وأخيرا وليس آخر، يرفض كامو الإنتحار الجسدي باعتباره هروبا من العبث وعدم مواجهته، ويقترح في المقال أن يثور البشر على هذا العبث وأن يكونوا أحرارا بدلا من الهروب منه.
الإنتحار الفلسفي
وكما في الإنتحار الجسدي، يعتبر الإنتحار الفلسفي خيارا أيضا للهروب من عبثية الحياة. لكن في مقابل ذلك، يقدم الإنتحار الفلسفي “إجابات” جاهزة ومُهدّئة عن الأسئلة الأساسية والوجودية حول الحياة، والتي دائما ما تكون مصدر قلق وإزعاج. أي بصيغة أخرى، يقدم الإنتحار الفلسفي وجبة جاهزة من الإجابات عبارة عن حدٍّ لألغاز الكون والوجود والحياة.
ربما يكون الإيمان بوجود إله هو المثال الواضح لما يقصده كامو بالإنتحار الفلسفي. فلو طرحنا سؤال لماذا يؤمن البشر بالإله؟ سنجد مئات الأجوبة المختلفة، بدءًا من الأنثربولوجيا ونهاية بالفلسفة. لكن كامو يقول أن السبب الرئيسي الذي يجعل البشر يمؤنون بوجود إله، هو الشعور أن لوجودنا على هذا الكوكب ورائه هدف وغاية. ولأننا مجرد بشر، فنحن قلقون جدا ومتلهفون لمعرفة إجابات عن الأسئلة الوجودية المهمة من قبيل “من أين أتى الكون؟” “ما هو الهدف من الحياة؟” “ماذا سيحدث لنا بعد الموت؟”
وعلى الرغم من طرحنا لهذه الأسئلة المهمة، إلا أننا ـ نحن البشر ـ نصطدم بواقع أن الحياة لا تعطينا سوى القليل من الإجابات أو لا إجابات على الإطلاق. لكن في نفس الوقت، ومرة أخرى، لأننا مجرد بشر، فنحن لا نستطيع تقبل عدم توفر إجابات عن هذه الأسئلة الوجودية المهمة، ولا نستطيع التسامح أو التعايش مع فكرة الحياة دون الإجابة عن هذه الأسئلة.
وبسبب عدم قدرتنا كبشر لتقبل الأمر الواقع ـ أن ليس هناك إجابات في الحقيقة ـ جعلنا نؤمن بالإله (أو الآلهة) أو أي قوة ميتافيزيقية خارقة التي قد تشعرنا بالراحة والطمأنينة، وتمنحنا هدفا ذو معنى لحياتنا. وبصيغة أخرى، يقول كامو أن فكرة الإيمان بالإله هي فكرة مقنعة لأنها تجيب ـ بشكل أو بآخر ـ عن أسئلتنا الوجودية، وبالتالي فإن هذه الفكرة تريح قلق الإنسان اليائس الباحث عن إجابات حول الحياة والغرض منها ومعناها.
ومن الأسباب الأخرى التي تجعل البشر يؤمنون بوجود إله ـ حسب رأي كامو ـ هو توق الإنسان إلى العدالة. فنحن كبشر نأمل دائما أن ينال الظالم عقابه وأن ينال المظلوم مكافئته. وفي مقابل هذا المبدأ، فالحياة لا تستطيع أن توفر أي ضامانات لتحقيق هذه العدالة ـ هنا على الأرض، لأن الحياة نفسها غير عادلة ولا تهتم بنا. الإيمان بوجود إله وبيوم “القيامة” أو يوم “الحساب”، في هذه الحالة، يمنحنا على الأقل طمأنينة وراحة بأننا سنال العدالة، وسيلقى كل ظالم جزائه.
يعتبر كامو أن الإنتحار الفلسفي ـ الإيمان بوجود إله والإنتماء الديني ـ هو أمر شائع ويمكن فهمه، لكنه تسائل أيضا عما إذا كان هذا هو الخيار الأفضل في مواجهة الإنسان للعبث. ويجيب كامو أن الإنتحار الفلسفلي شأنه شأن الإنتحار الجسدي، ورغم أن هذه الفكرة تظهر إلى حد ما دعوة كامو إلى “الإلحاد” إلا أنه يدعو في جوهر الفكرة إلى تقبل العبث وتقبل فكرة الغموض وانعدام المعنى في الحياة، وبالتالي احتضان عبثية الحياة وجعله الأساس التي تقوم عليه هذه الحياة. وهذا ما أسماه كامو ب “الرجل العبثي” ـ أو كي نكون منصفين في ترجمة هذه الكلمة “الإنسان العبثي”.
الإنسان العبثي هو الذي يُبقي باب أسئلة الحياة الوجودية مفتوحا دون الحاجة منه لغلق هذا الباب بالبحث عن إجابات مريحة ومهدئة، وبالتالي فكامو يرفض جملة وتفصيلا الإنتحار الفلسفي، وبصيغة أخرى، يمكننا أن نفهم أن موقف كامو هنا هو الإلحاد الشامل، خاصة وأن الإيمان بوجود إله يغلق باب الإحساس بالعبث.
وبصيغة أكثر تحليلا، يعتبر كامو أن الحياة لا تطلب منا سوى الإعتراف بل والإحتفاء بعدم جدواها وأنها بلا معنى. فصحيح أننا لا نعرف من أين أتينا، وإلى أين سنذهب بعد أن نموت. لكن كامو يقول أننا أحرار في البحث بأنفسنا عن معنى خاص بنا، مما يعني أيضا أننا أحرار في الإبتكار، وفي إنشاء إجاباتنا الخاصة عن هذه الحياة (بدل الحصول على إجابات مريحة من مكان آخر كالأديان على سبيل المثال).
ورغم أنها قد تظهر للقارئ هنا بعض التشابه بين ما قاله كامو وما تقوله الفلسفة الوجودية، إلا أن لكامو حلا آخر، وهو الخيار الثالث ـ الذي يختلف بعض الشيء مع مبدأ الفلسفة الوجودية.
عن العبث والتكرار
ترتبط العبثية ارتباطا كبيرا بفكرة “التكرار”، فقد شبّه كامو البشر بسيزيف، الذي يكرر نفس الفعل (حمل الصخرة إلى قمة الجبل لتتدحرج إلى الأسفل مجددا). يمكننا إدراك هذا التكرار بوضوح في حياتنا أيضا، فنحن نكرر نفس الشيء مرارا وتكرارا، نذهب إلى المدرسة أو العمل كل يوم، وأيام الإثنين هي نفسها تقريبا، وكذلك أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس … وهكذا. نفعل الشيء نفسه مرارا وتكرار دون الشعور بأن هذا التكرار لا طائل على الإطلاق من ورائه.
فحتى لو اختبرنا أشياء جديدة في حياتنا، كالنجاح في الدراسة، أو تحقيق إنجازات جديدة، فهذا بحد ذاته مجرد تكرار آخر لنجاح أو إنجاز آخر. فحتى احتفالات نهاية الأسبوع مثلا، هي ليست سوى تكرار لاحتفال آخر.
يقول كامو أن هذا التكرار العبثي هو نفسه تكرار سيزيف لحمله الصخرة وإعادة حملها مجددا ومجددا ومجددا. وفي ظل كل هذا التكرار، يدرك البشر أنه تكرار خالي من المعنى ولا جدوى ترجى منه، إلا أنهم يظلون متشبتين به ويعيشون طيلة حياتهم يكررون نفس الأشياء مرارا وتكرارا.
ويجعلنا موضوع التكرار نطرح سؤالا مهما نجيب عنه في الفقرة القادمة، وهو عن وجود الأمل وسط كل هذا التكرار العبثي الخالي من المعنى، وهل للأمل مقعد في غرفة الحياة العبثية أم أن الأمل نفسه لا معنى له؟
الأمل مقابل اليأس والعشوائية
تتميز حياتنا ـ وفقا لما قاله كامو ـ بنوع من اليأس، فالحياة في الحقيقة لا تتمحور حول الحصول على ما نريد وما نأمله. يُعبّر كامو عن هذه الفكرة بأن الأمل هو نوع من الإنحراف والابتعاد عن الواقع المرير واليائس.
يستطيع الشخص إدراك هذه الفكرة من خلال التفكير العميق والعقلاني في كل آمالنا ورغباتنا في هذه الحياة. نأمل دائما في حدوث الأفضل في هذه الحياة، ولكن في المقابل، نحصل إما على نعم أو لا لهذا الأمل، والذي يمكن يعزز فكرة أن الحياة ـ كما سبق وذكرنا ـ لا تهتم بنا أو بآمالنا ومتنياتنا وأحلامنا ورغباتنا.
الكون نفسه لا يهتم بوجودنا كبشر، وقد يتم إبادتنا في أية لحظة بنيزك كوني إتجه بشكل عشوائي نحو كوكبنا (كما حدث مع الديناصورات).
وبالتالي، يرى كامو أن الأمل نفسه خالي من المعنى، إذ يعتبره أيضا كنوع من الإلهاء نلهي به أنفسنا في هذه الحياة، ونهرب به من الواقع البائس. أو بعبارة أخرى هو شكل من أشكال الإنتحار الفلسفي. كما يضيف كامو معززا فكرته أن ما يهم في الحياة هو الكم وليس الجودة.
والآن، يطرح السؤال المهم بعد عبثية التكرار وعبثية الأمل، وهو سؤال لطالما تم نقاشه في الفلسفة قديما ولا يزال يناقش وتختلف فيه الآراء والأفكار، وهو السؤال عن السعادة. فمع كل هذه العشوائية واليأس والتكرار واللامعنى، قد يتسائل المرء، وخاصة “الإنسان العبثي” عن كيف يعيش الإنسان حياة سعيدة في ظل كل هذا العبث؟
والإجابة عن هذا السؤال تسوقنا لتحليل فلسفي آخر عن آخر خيار متاح للإنسان كي يواجه عبثية الحياة، وهو الخيار الأفضل بالنسبة لكامو، إذ اختتم به كتابه “أسطورة سيزيف” حيث قال في آخر جملة “يجب أن نتخيل سيزيف سعيدا”.
العبثية والسعادة
يقدم لنا كامو في كتابه “أسطورة سيزيف” 3 خيارات للتعامل مع العبث أو إيجاد الحل المناسب له. الخيار الأول هو الإنتحار “الجسدي” وهو ما رفضه كامو باعتباره فعلاً أكثر عبثية من الحياة نفسها. الخيار الثاني وهو الإنتحار الفلسفي، حيث ينتحر فيه الشخص فلسفيا (وفكريا) عوض مواجهة العبث، ومواجهة انعدام وجود أجوبة عن الأسئلة الوجودية المهمة، وهو بهذا يصبح شخصا ميتا من الناحية الفكرية والفلسفية. وقد ناقشنا هذين الخيارين في الفقرات السابقة.
أما الخيار الثالث، والأخير، والأفضل لكامو، هو قبول العبث وعيش الحياة بلا أية معنى، وقد وصف كامو الإنسان الذي اختار هذا الاختيار ب “الإنسان العبثي“.
لكن الخيار الثالث يطرح أمامنا سؤالا مهما: هل تستحق الحياة أن تُعاش في ظل كل هذا العبث؟ وإذا كنا سنعيش حياة عبثية خالية من المعنى، فكيف لنا أن نشعر بالسعادة اذن؟ إذ كيف للإنسان أن يجد السعادة في حياة خالية من المعنى ومليئة بالتكرار واليأس والعشوائية وانعدام العدالة وانعدام الإله؟
يبحث البشر دائما عن السعادة، فالسعادة هي جوهر الحياة، ولا يمكن تخيل حياة رائعة دون أن تكون مفعمة بالسعادة. لكن مع ذلك، يختلف مفهومنا ومنظرونا عن السعادة من شخص لآخر، ويكمن هذا الإختلاف باختلاف معتقداتنا وثقافاتنا المتعددة، وآرائنا وتجاربنا في الحياة …الخ. فعلى سبيل المثال، قد يربط البعض السعادة بالمال، بينما يربطها آخرون بالنجاح.
لكن من وجهة نظر الفلسفة العبثية، فالأمر مختلف، إذ أنها قد لا تتفق مع النظرة الأساسية السائدة عند الناس عن السعادة، فقد اعتبر كامو سيزيف سعيدا، رغم معاناته في حمل الصخرة إلى أعلى الجبل، ورغم تكراره لنفس الأمر في كل مرة. ويقول كامو في هذا الصدد: “العبثية والسعادة هما ابنان لنفس الأرض. إنهما لا ينفصلان. سيكون من الخطأ إذا قلنا أن السعادة تنبع بالضرورة من إدراكنا للعبث”.
يُصرّ كامو على أن سيزيف يمكن أن يكون سعيدا، ليس بتجاهله للعبث، بل بإدراكه لهذا العبث. تكمن الفكرة هنا في أن الإنسان يحتاج إلى قدر من الوعي والإدراك ليتمكن من الإعتراف بأنه سعيد. يقول كامو إن لحظة الوعي هذه تأتي إلى سيزيف عند مشاهدته للصخرة وهي تتدحرج إلى الأسفل، وفي تلك اللحظة بالظبط يشعر سيزيف بما سماه كامو بالصحوة (إن صحت الترجمة لكلمة Awakening).
إن الشعور بالصحوة (أو الإستيقاظ الإدراكي) بعد الانتهاء من مهام الحياة اليومية يطرح السؤال “لماذا؟”. وفقا لكامو، عندما يشعر الإنسان بالملل، فإنه سيسعى إلى وحدة المنطق والكون، وسيسعى إلى استعادة التوازن والتوافق مع الكون. إنما مشكلة هذه الوحدة هي أن الكون صامت ولا يقدم أي إجابات عقلانية، وبالتالي يقف الإنسان وجها لوجه مع اللاعقلانية، والتي تسوقه بدورها إلى السعادة والمنطق.
إن الاعتراف بأن الكون لا يهتم بالوجود البشري وعدم امتلاكنا للمعرفة الكافية من أجل فهم هذا الكون (لأنه غامض)، هما بالنسبة لكامو حقيقة ما يجعل “الإنسان العبثي” إنسانا حرا ويقظا.
وفي حالة اليأس هاته لمواجهة العبث، يختار سيزيف أن يعيش متقبلا لهذا العبث، فهو بهذا يختار الشجاعة والعقل، إذ يقول كامو “يفضل سيزيف الشجاعة والعقل. الشجاعة تعلمه كيف يعيش بلا استمالة وأن يتعايش مع ما يملك، أما العقل فيريه حدوده.
وبالتالي، كي نفهم السر وراء سعادة سيزيف يجب علينا معرفة خصائص “الإنسان العبثي”. فهذا الأخير يعيش حياته بشجاعة وبعقلانية بعيدا عن أي شكل من أشكال الوهم والأجوبة الجاهزة، وهو إنسان حر في اختياراته، ويتمتع بفكرة أنا الحياة لا معنى لها.
قد يتسائل القارئ هنا ما إذا كان سيزيف اختار معنى لحياته، وهو الشيء الذي قد يتشابه مع فكرة سارتر عن اختيارنا للمعنى الخاص بنا عن الحياة، إلا أن كامو يصرح أن قبول العبث هو بمتابة المعنى الخاص لحياة سيزيف، وما الإعتراف بمصيره إلا اعتراف بهذا القبول. يقول كامو أن سيزيف سيد نفسه، فهو ليس عبد.
وأخيرا، أنهى كامو كتابه بالقول أن علينا تخيل سيزيف سعيد، إذ قال:
إن وعي سيزيف وإدراكه لمهمته (لمعاناة الحياة) والسماح لكل عنصر من عناصر هذه المهمة مليئا بنوع من الإستمالة، يفني سيزيف حقيقة أنه تم عقابه، ويسعد بمصيره العبثي الخالي من المعنى. وبصيغة أخرى، إن اعتناق سيزيف لهذا المصير هو في النهاية التحدي الأكبر، وهو التمرد ضد الوجود، لأن القيام بذلك يعني نفيه أنه عوقب (بمعاناة الحياة).
وكي نفسر تشبيه كامو للحياة بسيزيف، فإن الحياة مليئة بالمعاناة واليأس والعشوائية والتكرار … والعبث، وإن قبولنا بهذا هو الخطوة الأولى نحو إدراكنا “صحوتنا” بالعبث، وبقبولنا لهذا العبث، نتمرد على هذا الوجود وعلى المعناة ونسعد بهذا المصير.
وبهذا، ننهي هذا المقال العبثي الطويل.