in

ما هي العلمانية ؟ وهل العلمانية هي الحل لتَحظُّر مجتمعاتنا العربية ؟

العلمانية

العلمانية كما هو معروف هي فصل الدين عن سياسة الدولة، يعني باختصار آخر، هي تبنّي الدولة لقوانين وضعية غير مستوحاة من أي دين معين، حيث تكون هذه القوانين مواكِبة للعصر وتمنح الحقوق لكل المواطنين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو لونهم. فالمسلم له حقوق مثله مثل اليهودي والمسيحي واللاديني … ونفس الشيء بالنسبة لذوي البشرة السوداء والبيضاء … الرجل والمرأة … الذكر والأنثى … المثلي الجنس والمغاير … الخ من الاختلافات بين المواطنين.

” من الطبيعي أن نفكر أن كل شخص يعيش في دولة معينة ويدفع الضرائب التي عليه، أن يحصل على كامل حقوقه الانسانية من هذه الدولة، كيفما كانت أفكاره ومعتقداته ولغته … “

وكما هو متوقع بالنسبة للشيوخ ومن يُسمّون أنفسهم بعلماء الدين، فقد خرج العديد منهم بفيديوهات وفتوات تقول أن ” العلمانية ” هي كفر ومنهج غربي لا يجب أن نعتمد عليه في دولنا العربية.
بل وذهب بعضهم إلى القول أن أي شخص يفكر بالعلمانية أو يُسمّي نفسه علماني، حتى ولو كان مسلما، فهو كافر.

طبعا هذه تعتبر آرائهم الشخصية وليس لنا الحق في أن نسخر منهم، لكن لنا الحق في أن نسخر من فكرة أن العلمانية كفر. لأن العلمانية لا علاقة لها لا بالكفر ولا بمستوى تديُّن وإيمان الشخص. بل هي فقط سياسة تحظرية وبداية جيدة لأي دولة في العالم نحو طريقها إلى التحظر.



صلاحيات الحكام في الحكم الغير علماني

ربما سيتسائل العديد من الناس عن فوائد العلمانية للمواطنين أو لمستقبل الدولة، لكن العديد من هؤلاء يتغاضون عن التفكير بالصلاحيات التي يستفيد منها الحكام باستخدام الدين في السياسة.
وُجب التوضيح أولا أن العلمانية لا تعني فصل الدين عن المواطنين ولا تعني أنها ضد الأديان، أو ضد بناء المساجد والمعابد … سنشرح ذلك بالتفصيل في الفصل الموالي لهذا المقال.
وقبل فعل ذلك، علينا أن نوسع تفكيرنا وأن نضع أنفسنا موضع الحكام لنفهم ونستوعب مدى استغلالهم الدين في التلاعب بالمواطنين وغسل أدمغتهم لسهولة التحكم بهم وتغيير آرائهم.
ولنفهم ذلك، اخترت أن أخترع قصة قصيرة ـ والتي قد تظهر لك أنها تنتقد الأديان، لكنها ليست كذلك.


قصة الحاكم لوس والديانة الآفارية

في عالم ” وسترس ” هناك العديد من الأديان التي اخترعها البشر على مر التاريخ، ومن بين هذه الأديان، الديانة ” الآفارية ” وقد كانت الديانة التي اعتنقها أكبر عدد من الناس، لمدى إيضاح أفكارها ولمدى قوة الاستقرار النفسي والروحاني التي تمدها لمعتنقيها.
ينقسم عالم ” وسترس ” لعدة دول، ولكل دولة حاكم وقوانين خاصة بها. ومن بين هذه الدول، نرى الحاكم ” لوس ” الذي استطاع استغلال الديانة ” الآفارية ” في التحكم بشعبه وقراراته بكل سهولة.

كيف استطاع فعل ذلك ؟
الأمر ليس بهاته البساطة، حيث استنفذ هذا منه وقتا طويلا وجهدًا كبيرًا في بناء العديد من المعابد وبتشريع تدريس الديانة ” الآفارية ” في المدارس. وقد قام ببناء وزارة خاصة سماها ” وزارة الشؤون الآفارية ” وفَتَح فيها مجالا للعمل في دور العبادة أو في القنوات التلفزيونية أو كأساتذة ومعلمين للديانة الآفارية في المدارس. كما استغل أيضا يوما مقدسا يقوم فيه الآفاريون بإلقاء خطبة كل يوم اثنين، فكلف هذه المهمة لوزارة الشؤون الآفارية، حيث أصبح بإمكانه الآن أن يوصل الأفكار التي يريد إيصالها إلى شعبه عن طريق هذه الوزارة التي ستقوم هي بدورها بغرسها في أدمغتهم عن طريق خطبات يوم الإثنين والقنوات التلفزونية التي تترأسها وكدى الكتب التي تدرسها للشعب في المدارس.

ومن بين الأشياء المهمة التي قام بغرسها في أدمغة شعبه والتي كانت مستوحاة من الديانة الآفارية نفسها. فمثلا الفقر هو شيء طبيعي في الديانة الآفارية حيث أن إله هذه الديانة هو من خلق الفقر وهو من يوزع الأرزاق، ولكل شخص ورزقه ولا أحد يستطيع أن يغير هذه الحقيقة. كانت من بين الأشياء الأخرى أن هذه الحياة ليست سوى فانية، إذ ليس عليك أن تطالب بحقوقك ولا أن تفكر في النضال من أجل ذلك، كل هذا مضيعة للوقت، إذ كل ما يجب عليك فعله في هذه الحياة هو تقبل واقعك كيفما كان وحضور خطبات يوم الاثنين باستمرار لتعيش حياة رائعة بعد الموت.

طال زمن حكم ” لوس ” لدولته بهذه الطريقة، وأخد ينهب ثروات شعبه بكل أريحية وبدون توفير لهم الحقوق الإنسانية أو المطالب التي يطالبون بها. بل وقد تجاهل أيضا المشاكل الكبيرة التي يعاني منها شعبه، كالفقر وسوء التعليم، والبطالة …
كان هدف ” لوس ” منذ البداية أن يجني ثروات من شعبه ومن الموارد التي تتوفر عليها البلاد. فقد كان الشعب يدفع الضرائب حتى ولو كانوا فقراء، كما أن العديد منهم كانو أميين لانعدام وجود مدارس كافية.
كانت المعابد مبنية في كل المدن والقرى، وقد كانت ميزانية وزارة الشؤون الآفارية تدفع مبالغ ضخمة أكبر حتى من المبالغ التي تدفعها وزارة التعليم. لدرجة أنك قد تجد معبدين أو ثلاث في أحد الضواحي، لكن قد لا تجد مستشفى أو مدرسة واحدة.

تطورت الأمم وجاءت الأنترنت التي أصبح من السهل الآن على أي شخص في العالم أن يحصل على المعلومات بشكل سريع وبسيط، ففهم بعض البشر أن الحاكم يستغل الديانة الآفارية في السيطرة على الشعب والتحكم بهم، وقاموا مناضلين ومطالبين بقيام الدولة العلمانية وفصل الديانة الآفارية عن قوانين الدولة، صحيح أنهم يؤمنون بحياة بعد الموت، لكن هذا لا يعني أن عليهم أن يتقبلوا الفقر وأن يعيشوا حياتهم كلها مخلصين للديانة الآفارية فقط. انطلقت حركاتهم وتظاهراتهم، لكن المشكلة الوحيدة التي واجهتهم هي أنهم أقلية قليلة فقط، إذ سهل على الحاكم أن يستخدم دفاعاته المعتادة، وقام بتوهيم الشعب في خطباته التي تقام يوم الاثنين في المعابد وحتى في القنوات التي أنشأتها وزارته ” أن العلمانية كفر بالديانة الآفارية، وما دمنا آفاريين، علينا تقبل كل ما جاءت به الآفارية والحكم بها وبقوانينها “

فانقلب الشعب على هؤلاء العلمانيون ونعتوهم بالكفار ـ رغم أن مطلبهم الوحيد هو فصل هذا الدين عن قوانين الدولة وأن على كل مواطن أن يتمتع بكل حقوقه الانسانية، لكن صوتهم ما باء يسمع وسط هذا الحشد الكبير من المتوهمين والأدمغة المغسولة … وهم يخططون الآن إلى تفسير آرائهم والتعبير عنها في الأنترنت، التي فتحت المجال لذلك.
وماهي إلا مسألة وقت، حتى يزيد عددهم وسيصعب حينها على الحكام من أمثال ” لوس ” السيطرة عليهم بالديانة الآفارية “.



قد تبدو هذه القصة نقدية للأديان أو لدين الاسلام بالخصوص، لكنني لم أنتقد سوى فكرة استخدام الدين في السياسة وفي السيطرة على الناس.

وبرجوعنا للواقع، فهذا بالظبط ما يحصل في بلدادنا العربية؛ يقومون بتدريس الدين في المدراس، من السنة الأولى ابتدائي حتى السنة الأخيرة، ينتقون أفضل الأشياء في الدين، التي من شأنها أن تُسهّل عليهم التحكم بك، كتقبل الفقر وعدم المطالبة بالحقوق الانسانية وأن الغرب ليسوا سوى كفار ـ كما علمونا في المدارس ـ إذ أننا لا نحتاج إلى أن نفعل كما يفعلون أو أن نحكم كما يحكمون، وأننا أفضل منهم ـ رغم فقرنا وعدم توفرنا على أبسط حقوقنا ـ لأننا سنذهب إلى الجنة وهم إلى جهنم.

ومع تقبلنا لهذا الوضع سنبقى دائما خلف الحضارات، فلا علوم نتعلمها ولا اكتشافات نقوم بها لنطور أنفسنا، جودة مدارسنا سيئة للغاية، وعدد مستشفياتنا ضئيل جدا مقارنة بعدد المساجد، وحكامنا ينفقون أموالا ضخمة في وزارات الأديان من أجل السيطرة علينا، بدل إنفاقها في وزارات التعليم والصحة التي هي من أولويات حقوقنا.


العلمانية لا تعني أنها ضد الأديان

لو تمعنت جيدا في قصة الحاكم ” لوس ” ستجد أن العلمانية لا تعني بالضرورة أنها تأتي لتفصل الدين عن المواطنين وتدمر المعابد وتبني مكانها جامعات أو مدارس. فالعلمانيون مدركون لفكرة أن الحكام يستغلون هذا الدين في السياسة والذي هو شيء خاطئ تماما، إذ أن السياسة شيء والدين شيء آخر.

العلمانية لا تعني أنها ستفصل الدين من عقول المواطنين، ولا تعني أنها ستدمر المساجد والكنائس، بل هي فقط منهج سياسي، يقوم على قوانين وضعية، تتغير باستمرار مع تطور الوقت لتواكب العصر ولتعطي الجميع حقوقه الانسانية.

صحيح أن سياسة العلمانية لا تعطي أولوية للدين، فلو كان هناك اختيار بين بناء جامعة وبين بناء مسجد، ستقوم الدولة العلمانية ببناء جامعة، لأنها من أولويات وأسس الدولة. ثم بعد ذلك ستقوم ببناء مسجد التي ستحمي فيه المواطنين بممارسة طقوسهم الدينية في هذا المسجد. والتي ستفعل الشيء نفسه مع أي دين آخر كالمسيحية ببناء كنيسة أو الهندوسية ببناء معبد هندوسي.


العلمانية تحمي الدين أكثر من الدولة الدينية

ولنفهم هذا الشيء بشكل مبسط، سنأخد مثال لك أنت شخصيا. تخيل أنك قمت بزيارة أمريكا مثلا أو أي دولة علمانية أخرى، ولأنك شخص مسلم على سبيل المثال،، قمت بالبحث عن مسجد قريب للفندق الذي تقيم به، ثم وجدت المسجد، ودخلت إليه من أجل أن تصلي صلاتك أو أن تقرأ بعض القرآن هناك. ستلاحظ أنك تمارس طقوسك الدينية من دون أن يمنعك شخص أو أن تتعرض للاظطهاد. بل ستقول أن هذه الدولة تحميني أفضل من الدول العربية الدينية، إذ أن هذه الدولة وفرت لمواطنيها كل شيء حتى للمسلمين منهم.

نفس الشيء سيحصل في الدول العربية لو أنها كانت علمانية، سيعيش المسلم بأريحية وبدون اظطهاد كما سيعيش المسيحي أيضا بكل أريحية وبدون اظطهاد. وكما قلنا في بداية المقال ” ما دام المواطن يدفع الضرائب، فعلينا أن نوفر له حقوقه الانسانية “

يعني أن العلمانية تحمي جميع الأديان، عكس ما يقوله البعض بأنها ضد الأديان. العلمانية تعطي الحق للجميع بأن يمارسوا طقوسهم الدينية بكل أريحية.



العلمانية تعني دولة متقدمة

لا أحب أن أضع احصائيات عن الدول العربية في مؤشرات التنمية البشرية ولا في مستويات التعليم أو الصحة، وكأي لا أرتكب أي مغالطات، فالمشهد واضح وضوح الشمس؛ دولنا العربية تحتل مراكز متأخرة في العديد من المجالات. لكن هل هذا يعني أن العلمانية ستحل هذه المشاكل ؟

قد يختلف العديد معي في هذا الرأي، لكنني أقول أن العلمانية هي الخطوة الأولى لتحضّر وتطور مجتمعاتنا العربية. وسأتكلم الآن انطلاقا من العديد من الدراسات والأمثلة الواضحة عن دول علمانية ناجحة.

يوضح الدكتور فيل زوكرمان، أستاذ علم الاجتماع والدراسات العلمانية في كلية بيتزر، في مقال على موقع (psychologytoday) بعنوان ” المجتمعات العلمانية أفضل من المجتمعات الدينية “.

ويقول في هذا المقال مستندا إلى العديد من الدراسات في هذا المجال، أن أكثر الدول أمنا وسلاما، والحاصلة على نسب أعلى في مستويات السعادة، والتطور والصناعة هي دول علمانية. بينما الدول الغير آمنة، والتي تتركز في مؤخرة القائمة لمؤشرات السعادة والرفاه الاجتماعي هي دول دينية (غير علمانية).

ثم أضاف في دراسته الاجتماعية لولايات أمريكا أن العلاقة واضحة وقوية: كلما كانت الدولة أكثر علمانية كلما كانت أكثر ميلا إلى التوفيق بين مجموعة واسعة من التدابير، بما في ذلك معدلات القتل والجرائم العنيفة، ومعدلات الفقر، ومعدلات السمنة ومرض السكري، ومعدلات إساءة معاملة الأطفال، ومستويات التحصيل العلمي، ومستويات الدخل ومعدلات البطالة ومعدلات الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي وحمل المراهقات، وما إلى ذلك.

ولا شك أن هذا ما ستسعى له الدول العلمانية من الأساس، فعوض توهيم الناس بأن الأمراض من عند الله مثلا، ستقوم الدولة العلمانية بدفع ميزانيات هائلة من أجل القيام بالتجارب والدراسات العلمية التي من شأنها حل مشاكل الصحة والأمراض. (فالمواطن يدفع الضرائب، أليس كذلك ؟)
ونفس الشيء بالنسبة للسرقة والجرائم … الخ. قد أقول من وجهة نظر عميقة أن السرقة والجرائم هي من صلاحيات الحكام العرب، فهم لا يُتعبون أنفسهم جراء القيام بأبحاث من أجل التصدي لهذه الجرائم، التي غالبا ما تكون أسبابها الفقر (وليس دافع ديني كما يعتقد الناس)، يكفي إدخال المجرمين إلى السجن، والقول بأن الجريمة حرام. لكن من وجهة نظر أخرى، الدول العلمانية، يمكنها تطوير وزيادة دراسة المشكلة من أجل حلها والتصدي لها بشكل صحيح، كما تفعل مع أي مشكل اجتماعي آخر.


خلاصة

وخلاصة القول، فالعلمانية ماهي إلا سياسة تحضرية وخطوة أولى لأي دولة نحو التحظّر، وكل من يقول أن العلمانية كفر أو أنها ضد الأديان، فغالبا سيكون شخص يدافع عن صلاحياته فقط، التي تشكل له العلمانية تهديد لهذه الصلاحيات (كالحكام العرب، أو كمن يدعي أنه راقي شرعي …) فإما هذا أو أنه لم يفهم جيدا معنى العلمانية، وكيف باستطاعة هذه السياسة أن تحميه كمواطن أكثر من سياسات الدول العربية الحالية.


Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر