in

ما الذي يتبقى من الإنسان في أزمنتنا الحديثة؟!

عادل كوننار - ما الذي يتبقى من الإنسان في أزمنتنا الحديثة؟!

للوهلة الأولى يبدو جليا أن العنوان يحمل موقفا يبدو سلبيا تجاه إنسانيتنا الراهنة و حكما يضفي بوضوح طابعا مأزوما بخصوص هذه الإنسانية، و حتى نجلي الصورة أكثر دعونا بداية نسائل وضع الكائن البشري من الناحية القيمية والأخلاقية في العصر الحديث بالمقارنة مع العصور السابقة، و السؤال هو أي الأزمنة أفضل؟ هل نشهد حاليا تقهقرا قيميا و إنسانيا مقارنة مع الماضي؟ أم أننا نشهد على العكس من ذلك رقيا إنسانيا أكبر مما كان عليه الوضع سابقا؟

من المؤكد أننا لا نستطيع أن نعطي إجابة مباشرة لصالح هذا الرأي أو ذاك، هنا سنقع في نوع من الاستسهال و التبسيط الذي يجعلنا نقف عند السطح دون النفاذ إلى عمق الإشكال، و بالتالي فنحن في حاجة إلى بلورة موقف مركب و تفكيكي -و إن بإيجاز- في محاولة لفهم الوضع بشكل أوضح، و الهدف هو فهم مجتمعاتنا على حقيقتها و ليس الاقتصار على الطريقة التي تفهم بها نفسها.

ليس خافيا على أحد تلك المنجزات الكبرى التي تنسب لعصرنا الحديث سواء في مجالات التكنولوجيا و معدلات النمو الاقتصادي و الاستغلال الأمثل للثروات، بما أدى إلى زيادة الدخل و تحسن الخدمات الصحية و التعليمية و الاجتماعية عموما، مما انعكس على جودة العيش، التي عرفت تقدما مهما مقارنة مع الماضي، كل هذا التطور المادي لا جدال فيه، و لكن و حيث أن الإنسان يتكون من مادة و روح، فهل نستشعر أن روح الإنسان قد سايرت تلك الخطوات أما أنها قد تخلفت عن الركب، الواقع أن النظام الحديث و هو يثمر هذه المنجزات المادية غير المسبوقة، قد أسس في الوقت ذاته منطقه الخاص للحياة، منطق يتعامل مع الإنسان كمحض “مادة استعمالية يمكن تدويرها أو التخلص منها” حسبما تقتضيه سياسات الربح، إنه نظام بني على احتياجات ميكانيكية و ليست إنسانية، وفق آلية لا يمكن إلا أن تفضي إلى انفصال عن القيمة الخلقية، بما يفقد البشر إحساسهم، الذي أضحى قابلا للفتح أو الإغلاق كما لو أنه آلة يشغلها عامل ماهر، و قد أنتج هذا الوضع تعطيلا أخلاقيا للوعي، يتبلور في شكل قبول صامت بالتخلي عن البعد الأخلاقي في بعض الأوقات و تفعيله في أوقات أخرى، إنه شكل من الرؤية الأخلاقية البرغماتية، التي تحول الآخر إلى موضوع أقرب إلى الإحصاءات و العوامل أو التفاصيل التي تعترض الطريق.

 نحن إذن أمام دين جديد كان قد قدم وعدا مبهرا بتحرير بني البشر و نقلهم نقلة كبرى مقارنة مع مراحل من التاريخ كانت أشد ظلمة و حلكة، و للأمانة كان الإنسان الحديث قد بدأ فعلا يستشعر وفاء بذلك الوعد، بدأنا نحترم و نقدر المخلوق البشري غير أن ظهور العصر الآلي قد حطم كل ما ربحناه و أعاد تحويل الإنسان اليوم إلى مقياس اجتماعي و حسب.

صحيح أن الحضارة المعاصرة قد تحررت مثلا من استغلال و تجارة الرقيق، الذي توصلنا إلى شجبه و منعه من أهم الترتيبات و التنظيمات البشرية، غير أن هذا التقدم المهم قد عرف نكوصا و تمظهرات جديدة بأشكال مختلفة عن السابق، انبعثت تجارة الرقيق من لحدها، و قد أضحى المجتمع المعاصر يمتلك من الوسائل في هذا الصدد ما لم يمتلكه اليونان من قبل، لم يعد الأمر يتعلق بالقيود و حواجز الأسلاك الشائكة، و إنما بأساليب تعسفية آلية يعمد إليها النظام البيروقراطي للرقابة على الكائن الحي، حتى ليمكننا القول أن اليونانيين و المصريين ما كانوا ليكبلوا أيدي عبيدهم و أرجلهم بالحديد لو كانت لديهم الوسائل التي لمجتمعنا اليوم.
و الأخطر أن بني البشر في عصرنا الحالي لا يشعرون بحجم المأساة، إنهم يصرون على أن كل شيء طبيعي، حتى و إن كان هذا الوضع الطبيعي يستلزم إغفالا تاما لكل استجابة إنسانية أو أخلاقية، في مثل هذا السياق يعد كل تقييم أخلاقي إهدارا للحساب العقلاني الذي يضع الخطط و السياسات، دون أن يأخذ في الحسبان عند تقدير نسبة التكاليف و النتائج أي معطى من خارج هذه العقلانية الأداتية، لا فضيلة هنا تعلو عن فضلية النفع بمعناه الآلي الخالي من أية أحاسيس إنسانية.

إن عصرنا الحديث إنما يقوم على عدم تناظر عميق بين تطوير حضارة علمية و تكنولوجية و في الوقت ذاته تطوير عجز عن الاحساس الاجتماعي، و كل ذلك ناتج عن تلك الرؤية التي تنظر للإنسان من وجهة آلية، لقد خلقنا حضارة تشبه الآلة و هي ترغم الإنسان على التطبع بطبائع الآلات و قوانينها، أما الإنسان المخلوق من لحم و دم فإنه خارج الاعتبار، و النتيجة أن هذا الإنسان يستطيع في مثل هذه الظروف أن يبلغ على أبعد حد ذروة الكمال المادي، لكن ذلك لن يفيده في شيء إذا ما ظلت حياته خاضعة لقوانين كتلك التي تتعلق بالسيارات و الساعات.

إن مشكلات الأرواح البشرية الفردية التي يتشكل منها هذا الحشد البشري الهائل، تتمظهر في صورة غير قابلة للحل، في عالم جرى فيه الوعد بكل شيء لكن دون إخبار بموعد تلبية الوعد و لا بتكلفته، قيل لهذا الكائن البشري المنقاد، نعم ستبلغ الفردوس، لكن هنالك شيء واحد ستضطر لتركه وراءك، شيء واحد لن تستطيع أن تأخذه معك : قيمة حياتك.

Avatar for عادل كوننار

كُتب بواسطة عادل كوننار

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for عادل كوننار

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0