رغم كل التطور التي عرفته البشرية في الآونة الأخيرة، خاصة في المجال والمحتوى العلمي، إلا أن العديد من الناس ما زالوا لا يصدقون بهذا العلم، متشبتين عوضا عنه بكل التقاليد والمعتقدات والأطر القديمة التي عاش بها أجدادنا، والغريب في الأمر، أن هؤلاء الذين يَدّعون بعدم إيمانهم بالعلم، تجدهم يستخدمونه ويعتمدون عليه في أغلب ـ إن لم نقل كل ـ أوقات حياتهم، فهم مثلا يزورون الأطباء عند مرضهم، ويتناولون الأدوية (العلمية) من أجل شفائهم، ويصل الأمر أحيانا إلى إنقاذ حياتهم بالقيام بعمليات جراحية كان وراءها أبحاث وتجارب ودراسات علمية، عميقة ومكثفة، لكنهم في نفس الوقت، ينتقدون وبشدة علوم الأحياء التي لَعِبَت ومازالت تلعب دورا مهما في تطور الطب وباقي مجالات العلوم الأخرى، وينبني هذا الانتقاد على أساس أن هذا العلم يعارض ـ حسب آرائهم ـ معتقداتهم التقليدية، وكثيرا ما نرى خاصة في مجتمعاتنا العربية ـ لمدى افتقارنا في هذا المجال، العديد من المغلوطات حول بعض المصطلحات العلمية، ونجد مثلا خلطا واضحا بين مصطلح النظرية العلمية والفرضية، أو بين الحقائق العلمية والنماذج العلمية.
وقد أوضحنا هذا بشكل سريع وبسيط في مقال مفاهيم خاطئة عن نظرية التطور، وقلنا أن النظرية العلمية لها ظوابطها ومعايير قبولها في المحتوى العلمي، وتكون النظرية العلمية هي أعلى درجات اليقين والمعرفة العلمية، عكس ما يعتقده الناس عن أن النظرية العلمية مجرد نظرية، أي فرضية أو اقتراح أو رأي فقط.
وكي نفسر الآن هذا الأمر المغلوط بشكل أكثر تعمقا، علينا أولا توضيح بعض المصطلحات العلمية الأخرى من حقائق علمية وقوانين علمية …الخ، كي تتضح لك الفكرة في الأخير أن النظرية العلمية هي أعلى درجات ومستويات اليقين والمعرفة التي يمكن للبشر الوصول إليها والاعتماد عليها في تفسير ظاهرة ما أو عدة ظواهر.
الفرضية
يُخطأ العديد من الناس بين مفهوم الفرضية ومفهوم النظرية العلمية، فالفرضية تكون مجرد تخمين أو اقتراح لتفسير ظاهرة معينة في الطبيعة، وتأتي هذه الفرضية بناء على الملاحظات فقط، أي أنها لا تخضع للتجارب أو القياسات أو الدراسات من أجل إتباث صحتها، وبالتالي فهي تظل فرضيات إلى أن يتم إثباتها بالدلائل وإخضاعها للمنهج العلمي التجريبي، وتحويلها بعد ذلك إلى حقيقة علمية أو قانون علمي.
عموما تعتبر الفرضية الخطوة الثانية في المنهج العلمي التجريبي بعد الملاحظة، فبدون الفرضيات لا يمكننا أن نمُرّ إلى التجربة، لكن غالبا ما تكون أكثر الفرضيات خاطئة وغير صحيحة، وهو الشيء الجيد طبعا بالنسبة للعلماء، من أجل طرح أو تغيير هذه الفرضيات بفرضيات أخرى، إلى أن يتم تأكيد إحداها.
وعلى الرغم من أهمية الفرضية في المنهج العلمي التجريبي، إلا أنها تعتبر من أدنى المستويات العلمية، ولا تصل إلى مستوى القوانين العلمية أو النظريات العلمية أو غيرها من المستويات المطروحة في الفقرات القادمة، ولعل أبرز هذه الفرضيات؛ الفرضيات المطروحة بشأن نشأة الخلية الأولى على كوكوب الأرض، أو فرضيات ماذا كان قبل الانفجار العظيم، حيث لم يتم بعد تأكيد صحة هذه الفرضيات، مما يجعلها غير مُعتَمَد عليها بشكل علمي.
الحقيقة أو الحقائق العلمية
يذوب الثلج عند ارتفاع درجة الحرارة (حقيقة علمية)
الحقيقة أو الحقائق العلمية هي مجموعة من المعلومات المُثْبتَة عند العلماء والباحثين بعدد كبير من البراهين والدلائل أو التجارب والقياسات أو الأرصاد والحسابات المختلفة من طرف أشخاص مختلفين وفي ظروف وأماكن مختلفة. فمثال “ يذوب الثلج عند ارتفاع درجة الحرارة ” هو حقيقة علمية من الحقائق، وسيذوب الثلج بفعل الحرارة سواء كان هذا في الصحراء أو في منطقة باردة، في البيت أو في المقهى، وسواء قام بالتجربة طفل صغير أو عالم من العلماء، فستظل الحقيقة العلمية هي نفسها، أي أن العلماء لن يختلفوا في حقيقة علمية من الحقائق.
يمكن للحقائق العلمية أن تكون عليها بعض الاختلافات، لكن هذه الاختلافات تكون صغيرة جدا ويعود سبب ذلك إلى اختلاف المقاييس أو الظروف المعتمَدة، فمثلا سرعة الضوء كما هو معروف هي 300 ألف كيلومتر في الثانية، وهذه حقيقة علمية معروفة ومُتَّفق عليها، لكن الاختلاف بين العلماء في هذه الحالة قد يكون في نسبة صغيرة جدا ك 0،0001 %، وكما قلنا فاختلاف المقاييس والظروف قد يُحدث مثل هكذا فروق في الحسابات، لكن المضمون يبقى واحد، ولا يمكن في المستقبل مثلا، أن يأتي عالم ويقول أن سرعة الضوء غير ثابتة أو أن سرعتها تفوق السرعة المعروفة أو غيرها من الادّعاءَات، لأن الحقيقة العلمية تبقى ثابتة ولا تتغير.
القوانين العلمية
E = mc²
القوانين العلمية هي مجموعة من الصِيغ والمعادلات الرياضية أو الفيزيائية أو الكيميائية التي تصف وتفسر وتتنبأ بمجموعة من الظواهر الطبيعية، وغالبا ما تكون الظواهر المتكررة في الطبيعة.
وترتبط القوانين العلمية بالحقائق العلمية، فلصياغة قانون علمي، لا بد من الاستناد بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أدلة وبراهين تجريبية كما في الحقائق العلمية، وتكون القوانين موجودة أصلا في الطبيعة مُنتَظِرة من باحث ما أن يكتشِفها، فهي لا تُخترع كما يعتقد العديد من الناس، بل تُكتشف كما في مثال معادلة أينشتاين الموضَّحة أعلاه، الذي اكتشف أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، وهي من أشهر المعادلات الفيزيائية المعروفة في المجتمع العلمي.
هناك مصطلح آخر علمي يسمى بالقوانين الطبيعية، وهي تقريبا لها نفس مفهوم القوانين العلمية، إلا أنها لا تُصاغ أو تُكتب على شكل معادلات رياضية أو فيزيائية، بينما تكون قوانين شفوية إن صح التعبير، ويكون الجميع خاضعا لهذه القوانين ولا يمكن تجاوزها أو خرقها، فلو قفزت تجاه الأرض من فوق 20 طابقا، ستموت حتما ولن ترحمك قوانين الطبيعة في إبقائك على قيد الحياة.
بدأت القوانين العلمية مع يوهانس كيبلر، حيث كان أول شخص يضع قوانين علمية في تاريخ الانسانية وفي تاريخ العلوم، وسُمّيت هذه القوانين بقوانين كبلر، والتي اُكتشِفت لتفسر حركة دوران الكواكب حول الشمس، وكيف وبأي سرعة تدور وعلى أي مسافات …الخ.
النموذج العلمي
النموذج العلمي هو تصوير أو تمثيل يقوم به العلماء من أجل تفسير ظواهر معينة بشكل مبسط، والتي يكون من الصعب تفسيرها أو فهمها بدون نموذج علمي، ويمكن أن يكون النموذج العلمي مخططًا أو صورة، أو برنامج كمبيوتر أو مجموعة من الرياضيات المعقدة التي تصف الظاهرة، أو نموذج مادي (كنموذج الهيكل العظمي للانسان الذي كنا ندرسه في حصة العلوم بالمدرسة).
يكون الهدف الرئيسي للنموذج العلمي هو تسهيل فهم الظاهرة المطروحة، وأيضا التنبأ بما قد سيحدث في المستقبل، فمثلا سيكون من السهل التنبأ بتغيرات الجو والطقس إذا ما قمنا بتصميم نموذج علمي للغلاف الجوي لمنطقة معينة أو للعالم بأكلمه.
يمكن الاعتماد على النموذج العلمي في فهم الظواهر حيث أنه يكون نموذجا مُبسَّطًا وسهلاً، وبالتأكيد فهو يكون مبني على الأدلة والبراهين والحقائق العلمية المتوفرة لدينا، ويمكن أيضا استخدام هذه النماذج العلمية في تطوير بعض معارفنا العلمية، وذلك عن طريق التنبأ ومقارنة النتائج مع الواقع.
النظرية العلمية
النظرية العلمية هي إطار شبه متكامل، نضع فيه كل الحقائق والقوانين العلمية وكذا النماذج العلمية المعتَمَدة والصحيحة، فتقوم النظرية بعد ذلك بشرح وتفسير لكل هذه الحقائق والقوانين وتكون النظرية العلمية صحيحة مادامت كل نتائجها منسجمة مع بعضها البعض، وتتطابق مع كل التجارب والقياسات والأرصاد، إضافة إلى عدم وجود أي تعارض بين هذه التجارب والقياسات.
تُعتبر النظرية العلمية كما سبق وقلنا، من أرقى وأعلى مستويات المعرفة العلمية التي يمكن الاعتماد عليها في فهم كل المستويات المطروحة سابقا (حقائق علمية، قوانين علمية، نماذج علمية).
من النظريات العلمية المعروفة؛
- نظرية التطور التي تفسر عدة حقائق علمية كالانتقاء الطبيعي والجنسي والطفرات الجينية ..الخ
- نظرية الانفجار العظيم التي تفسر تتطور الكون من بدايته إلى الآن.
- نظرية ميكانيك الكم التي تفسر سلوك كل الجسيمات الدقيقة كالذرات والجزيئات ..الخ
- نظرية النسبية التي تفسر سلوك الجسيمات الكبيرة كتحرك الكواكب والنجوم والثقوب السوداء، وكدا تفسير الزمان والمكان …الخ
يمكن أن تكون النظرية خاطئة في حالات نادرة، وذلك بسبب اكتشافنا لإحدى الأخطاء أو التعارضات في النظرية، ويتم بعد ذلك إما تعديل النظرية وتصحيح الأخطاء، أو تسقط النظرية وتُستبدل بنظرية علمية أخرى لتفسير تلك الحقائق، وتسمى هذه العلمية بالثورة العلمية.
ملاحظة هامشية: لإسقاط نظرية علمية يجب على الباحث أو الدكتور أو العالم كتابة ورقة بحث علمية (بكل المعايير المطلوبة لكتابة ورقة بحث علمية) وتقديمها إلى الأكاديميات العلمية أو المجلات العلمية المعروفة من أجل مراجعتها (peer reviewing)، ثم بعد ذلك يتم الخروج بقرار إما بصحة هذا البحث أو بخطأه، وقد سبق وشرحنا هذا بالتفصيل في مقال المصادر الموثوقة. أما الفيديوهات على اليوتيوب أو المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي مجرد آراء، ولا يمكن الاعتماد عليها، ففيديو بعنوان ” اسقاط نظرية التطور ” مثلا، هو مجرد هراء، ولا يمكن الاعتماد عليه في المحتوى العلمي.
هل العلم يتغير فعلا ؟
يعتقد العديد من الناس، خاصة أولئك المنتقدين للعلوم، أن مادام العلم يتغير فلا داعي اذن للاعتماد عليه أو تصديقه، والخطأ في هذه الحجة أن العلم لا يتغير بالمقصود اللغوي الذي تعنيه العبارة، أو بالمقصود الذي يفهمه هؤلاء الناس، وتجد عددا كبيرا منهم ـ غير الذين يصدقون بأن الأرض مسطحة ـ يقولون أن العديد من الأشياء قد تغيرت في العلوم، فبلوتو مثلا الذي كان يعتبر كوكبا، أصبح اليوم كُوَيكِبًا، وجاذبية نيوتن حول الكواكب تغيرت لتصبح النسبية هي النظرية الأصح في تفسير ذلك … وغيرها من التغيرات التي طرأت فعلا في التاريخ العلمي البشري.
لكن العلم في الحقيقة يتغير بمعنى يتطور، أي أننا نكتشف أخطاء علمية ونقوم بتصحيحها وهكذا ذواليك، إلى أن نجد أفضل تفسير للظواهر وللحقائق العلمية الموجودة في الطبيعة، وهذا لا يعني بالضرورة أن كل الحقائق والنظريات العلمية هي معلومات مشكوك فيها أو غير مُعتَمدة، ولا يمكن أن نقول مثلا أن كوكب الأرض لا يدور على الشمس في الحقيقة، أو أن شكل الأرض مكعب وليس كروي …
وأخيرا وليس آخرا، أحب أن أشير إلى اقتباس جميل للعالم بيل نآي، من أشهر العلماء الناشرين للعلوم وتعليمها وتبسيطها:
العلم هو مفتاح المستقبل، وإذا كنت لا تؤمن بالعلم، فأنت تُؤَخّر الجميع.
بيل نآي