لقد تبين بعد قرنين من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي عرفها المجتمع الاسلامي ودولة الخلافة، بأن الكثير من العوامل المستجدة لم تكن في مصلحة هذه الدولة، فالنقاش حول الحرية والجبر والاختيار، والنقاش حول المال وملكيته وتدبيره، وكدا النقاش حول أسس الحكم، وصلاحيات الحاكم ومفهوم الشورى، وكدا الحوار الذي انبثق حول الأمور العقائدي فيما سمي بعلم الكلام، إضافة إلى النقاش الذي عرفه المجتمع الاسلامي الأول حول وضعية المرأة وأدوارها.
كل هذه القضايا جعلت الدولة الاسلامية تتيقن من ضرورة الحسم في بناء المنظومة الفقهية السياسية المغلقة والمنتهية، لسد الطريق على مغامرة الفكر والسؤال التي أصبحت تنبثق من المجتمع الاسلامي تحت ظغط تحولات كثيرة، التي أدّى إليها التفاعل مع أنماط عيش جديدة، وحضارات ثقافات أخرى، فارسية، هندية، يونانية، ورومية لاتينية ومصرية قبطية وتركية وأمازيغية وغيرها، وهو ما رافقه صعود أجناس أخرى وقوميات من غير العرب الذين فقدوا سلطتهم بسقوط الدولة الأموية تحت ضربات التحالف الجديد بين العباسيين والفرس.
وقد ظهرت في تلك المرحلة بوادر الصراع بين الحكام وحلفائهم من الفقهاء حيث أصبحت الفتوة الدينية ملزمة بالتدريج لأن تستجيب لحاجات الدولة والساسة، وبالمقابل ظهر سعي واضح من الفقهاء نحو التمكين لأنفسهم داخل بلاطات الخلفاء، ما أدّى في خضم مسلسل الشد والجذب بين الطفرين إلى اضطهاد الكثير منهم، ليستقر الأمر في النهاية عند تثبيت نوع من المنظومة الأرثودكسية السنية، التي أسست للتوازن والتحالف بين الطفرين، الحكام والفقهاء.
أسباب الجمود والتأخر
ورغم أن منظومة الفكر الفقهي السني تعكس تنوعا في مكوناتها حسب المذاهب والآراء واختلاف الفِرق والمدارس، إلا أنها انتهت في مسلسل التنميط والتقعيد، إلى وضع توجهات عامة، سرعان ما تجسدت في شكل ظوابط نهائية، جعلت الفكر الديني ينغلق بالتدريج عن التحولات، تحولات الواقع، وتطورات المعارف العلمية والفلسفية، ويمكن رصد أهم هذه التوجهات والمرتكزات الثابتة ذات الصلة بالفكر الديني في:
أولوية الدين على الانسان
هذا العامل من أكبر عوامل النكوس والتخلف، حيث تعتبر بموجبه كل دينامية الدولة والمؤسسات مركزة على خدمة الدين والانتصار له والحفاظ عليه، والدفاع عنه ومراقبته، من بين أفدح نتائج اعتبار الدين غاية في ذاته قبل الانسان، نزع الطابع الانساني عن الدين ونصوصه ومضامينه وتحويله إلى وصفات جامدة من القواعد الفقهية الزجرية، التي لا تأخد بعين الاعتبار واقع الانسان ولا حاجاته المتجددة، ولهذا فإن المتأمل في المجتمعات الاسلامية يشعر على الفور بانحدار قيمة الانسان المواطن لدى الدولة، في مقابل اهتمام كبير بالدين، وتعظيم لرموزه، بينما لا قيمة لدين من الأديان في غياب كرامة الانسان.
وضع قواعد فكرية تحولت إلى ظوابط دينية مقدسة
لعل من أسوء نتائج بناء المنظومة الفقهية المغلقة، عجز الفكر الديني عن الاجتهاد لصالح الانسان، فاخترع الفقهاء عبارات التنميط، التي سرعان ما تحولت إلى قواعد وظوابط، مثل وجود آيات قطعية الدلالة، ومثل وجود ناسخ ومنسوخ، ومثل ماهو معلوم من الدين بالضرورة، ومثل لا اجتهاد مع وجود النص، ومثل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب … إلى غير ذلك من القواعد الفقهية.
مفهوم الجماعة
حيث قام الفكر الفقهي القديم الذي مازال يَرُوج في المجتمعات الاسلامية إلى اليوم، على فكرة جماعة المسلمين، التي تعد جماعة دينية منسجمة انسجاما تاما يستثنى فيها أهل الذمة من يهود ونصارى، الذين يعتبرون أعضاء من الدرجة الثانية أو الثالتة بسبب تمييزهم بأحكام خاصة، هي أحكام أهل الذمة، وقد ساهمت فكرة الجماعة في إغلاق المجتمع الاسلامي وعرقلة انفتاحه وتطوره، كما جعلت كل مختَلَف منبوذا خارج الجماعة.
اعتبار الاجماع موقف أبدي للأمة
اعتبار الاجماع الذي هو مصدر من مصادر التشريع موقفا أبديا للأمة خارج التاريخ، مما جعل موضوع الاجماع قاعدة تابثة بشكل مطلق، والأفكار الاجتهادية الفردية، والتي فيها إبداع، تبدو شادة ومرفوضة في منظومة الفكر الفقهي الرسمي.
اعتبار الدين منظومة شمولية غير قابلة للتجزئ
مما جعله نظاما عاما يرفض تطعيم نفسه بالقيم والأفكار الجديدة مهما كانت واقعية وتضمن مصلحة الناس، وقد أدّى هذا إلى استمرار الفقهاء في الاعتقاد بأنه بالفقه وحده يمكن حل جميع المشاكل، الشيء الذي أفضى إلى تكريس التأخر والانغلاق.
فصل النص عن التاريخ
فصل النص عن التاريخ، واعتبار أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مما أدى إلى بتر النصوص عن سياقاتها، ومحاولة إسقاطها على واقع بلدان مختلفة عن جزيرة العرب وثقافتهم.
أفضلية الماضي على الحاضر
وذلك باعتبار أن السلف أعرف بالدين من الخلف، ما جعل الواقع المتجدد محكوما بالتجارب والأفكار السابقة، هذه الأسباب جعلت المسلمين في وضعية صعبة، أشبه بالكمّاشة التي تطبق على كل مناح الحياة وتعوقها عن التطور.