in

كيف نجعل من الثقافة عامل أساسي من أجل مواجهة التنميط والعنف ؟

مواجهة التنميط والعنف

يُطرح باستمرار وبشكل درامي ومأساوي أحيانا سؤال الثقافة والتحديث، كيف يمكن أن نقوم بتحديث مجتمعٍ تمت إعادة تجدير التقلدانية فيه بسياسة قصدِية وُضِعت وأُحكِمت على مدى عقود من أجل تسوية صراع الوجود بين السلطة ومعارضاتها.

من هذا المنطلق يمكن أن نلمس على امتداد عقود طويلة بأن معضلة الثقافة في بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط، كانت تتمثل دائما في تعرضها باستمرار لمخططات التنميط التي تتعارض مع طبيعتها، فإذا كانت الخاصيتان الملازمتان للثقافة هما النسبية والخصوصية، فإن السلطة سواء بمعناها السياسي أو الاجتماعي، كانت دائما تسعى إلى تنميط المجموعات وإخضاعها لمنطق التجانس القصري، أي إلى جعل واقع التعددية والاختلاف ينصب في قالب الفكر الأوحد والنموذج المتجانس والنمطي.

ولعل أولى محاولات التنميط التي عرفتها هذه البلدان كانت مع خطاب الحركات الوطنية الناشئة في سياق طبعه الانشغال بقضايا الإصلاح، في ظل التحديات التي طَرحها الاستعمار، وهو خِطاب قام على منظور هُويّاتي اختزالي، حدد عناصر الثقافة في مكونات الهوية الرسمية للدولة المركزية التي كان شعارها في هذه البلدان، العروبة والاسلام، معتبِرا بقية العناصر إما منصهرة في النسيج العربي، أو مهدِّدة للوحدة الوطنية.

وقد عرفت هذه البلدان بعد الاستقلال بروز اتجاه واضح نحو تقوية الدولة المركزية الحديثة، مما جعل سياسة التنميط الثقافي تتخد مظهرين قويين، التنميط الرسمي عبر التعليم النِظامي العصري ووسائل الاعلام، والتنميط عبر المدّ الفكري اليساري، الذي ارتبط بشكل عضوي بإيديولجية القومية العربية والذي تبنته أحزاب وتيارات مدنية ما بين الخمسينيات ونهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

لتُظهر بعد ذلك الظروف موجة من التنميط الساعية إلى إشاعة نمطٍ من التدين الحرفي وجعله أُسلوب حياة نموذجي ومفروض، يعتمد وصفة دينية تحدد بشكل صارم السلوك المثالي للمسلم وهي موجة إعتمدت أدبيات الإيديولوجية الدينية الشرقية بنوعيها الإخوانية والوهابية السلفية، وأدت بالتالي إلى إشاعة مناخ العنف اللفظي والمادي، خاصة بعد تطور وسائل الإتصال الحديثة وظهور مواقع التواصل الاجتماعي.

لقد كان جوهر الأزمة بالنسبة للثقافة الوطنية يتمثل في ازذواجية الدولة التي ورثناها على المرحلة الكلنيالية، هذه الازذواجية التي فرضت تجدير التقليدانية في المجتمع وترسيخها عبر المؤسسات والثقافة الرسمية، ومحاصرة القِوى الديموقراطية وإنهاكها في الصراع السابق حول السلطة، كما أن هذه السياسة أدت إلى ترسيخ نوعٍ من الشرقنة، شرقنة هذه البلدان وعزلها عن محيطها الجيوستراتيجي الافريقي والمتوسطي والآسيوي، ونَتَج عن هذه السياسة أيضا تسييج الثقافة بمفهومها الرسمي الضيق بوصفها عالما خاصا محنَّطا وبعيدا عن الحياة، وتعميق الشرخ بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي الثقافي، مما أدى إلى نتائج مأساوية، حيث لم تعد المدرسة مؤسسة للتكوين والتربية، بل فقط إطارا لتلقين بعض المعارف الجاهزة التي لا ترتبط في معظمها بالواقع اليومي.

ومن المعظلات الثقافية التي أدّى إليها مسلسل التطورات غير المتوازِنة، ما يتعلق بمجال القِيم، حيث ظهرت العديد من الانحرافات بسبب شيوع القلق والاحباط بعد تفكك الروابط الاجتماعية التقليدية دون أن يوجد بديل لها في سياق الدولة الحديثة، يقوم على الترسيخ الديموقراطي الذي يُسنده وعي عصري مواطن ومُتجدد.

في هذا السياق المظطرب، كان طبيعيا أن يُقدم الوعي السلفي الدين كحل شامل وعاطفي يُعوض القيم الضائعة، ويسد ثغرة الحاجة الروحية إلى الطمأنينة، لكن المشكلة أن الدين تم تقديمَه في لبوس جديد مفارق للثقافة الشعبية الأصلية التي كان مرتبطا بها، حيث جاء في صيغة إسلام مُعولم مدعوم من خارج البلاد بشبكات تمويل قوية، مما أصبح يُهدد في نفس الوقت القِيم الديموقراطية الهشّة، والقِيم الأصيلة الأكثر تجدرا.

ويُمكن اعتبار أن هذا التوجه الثقافي العام الذي أطّر الحياة الثقافية المغربية والتونسية والجزائرية والليبية وغيرها من بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط على مد الجسور بين النُخب، وجنّب البلاد السقوط في خطط التنميط المُفقِرة للثقافة، وكدا في دوامة العُنف المفرط، هذا التوجه الذي ساهمت فيه بشكل وافر النقاشات الفِكرية والثقافية، قد أدى إلى نتائج هامة بحاجة إلى ترصيدها والحِفاظ عليها بمكتسبات ثمينة، يمكن أن نذكر منها إشاعة وعي نسبي بموضوع الهوية عبر الدفاع عن مبدأ التعدد والاختلاف والتنوع الثقافي، إعادة بناء مفهوم الوطنية على أسس متعددة وتجاوز المنظور الإقصائي للدولة المركزية، المنظور الاستبدادي الذي خفلته مراحل الصراع السابقة، والذي كان يرمي إلى اصطناع هوية متجانسة واختزالية.

هناك أيضا ربط العمل الثقافي بالنضال الديموقراطي التحرري، وهناك التأكيد على فكرة العمق التاريخي للدول وعلاقتها الحضارية، وأيضا الفصل المنهجي بين الإسلام من حيث هو دين ومعتقد شخصي وبين الإديولوجية القومية.

ويمكن القول إن هذه المكتسبات قد ساهمت في نقل بلدان شمال افريقيا من منظومة الأحادية إلى تدبير التعددية، ومن النمط الواحد إلى إبداعية الفعل الثقافي، وهذا من أكبر العوامل المساعدة على مواجهة الإيديولوجيات العنيفة والتنميطية والحد من تأثيرها.

إن إبداعية الثقافة وديناميتَها الحيوية وارتباطها بالنزعة الانسانية الكونية وانفتاحها على إبداع التاريخ وإمكانات الوجود البشري، تجعلها متمرِّدة باستمرار على كل نزعات التنميط والعنف مهما كانت قوية.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0