in

مشاكل الحريات الفردية في العالم العربي باعتبارها معركة ثانوية

الحريات الفردية

لم يفهم بعض المواطنين أبعاد النقاش الدائر حول الحريات الفردية واعتبروه أمرا ثانويا، لا يهم هذا المجتمع أو ذاك، في الواقع إنه نقاش ظل يُؤجل باستمرار بسبب كثرة الطابوهات التي تحُفُّ بحياتنا الاجتماعية والسياسية، ظل يؤجل لأن نُخبنا لا تريد كسر الدماغ بأمور صعبة وحساسة، وتفظل الاحتماء وراء الحُكّام وأرباب السلطان وقطف نتائج القرارات الفوقية، غير أننا نرى عكس ذلك تماما، لأن المضي نحو الدمقرطة والتحديث ينبغي أن يكون شموليا ويسمح بتطارح كل القضايا المادية منها والرمزية، ومعلوم أن بوابة التغيير وعلامة الاتجاه الصحيح نحو الديموقراطية والمستقبل الأفضل إنما تبرز في العقليات والأفكار والقيم، ويخطأ من يظن بأننا نستطيع المرور من عُنق الزجاجة لننعم بمكاسب الحياة الديموقراطية، محتفظين في نفس الوقت بعقليات قديمة وبمنظومة قِيم جامدة ومحددة بشكل نهائي ثابث ومراقبة بإحكام.

ويعني أن هذا الصراع سيظل مستمرا وشاملا بين ما هو جديد وقديم، وبين الحداثة والتقليد، وبين التأخر والتقدم، والذي يظهر إما بشكل مباشر أو غير مباشر، فسواء تعلق هذا الصراع بالعقيدة أو بالجنس أو بالأشياء الترفيهية من مهرجانات وسينما وموسيقى، وكل تلك الأمور التي مازال بعض المحافظون وفقهاء التشدد يثيرون ضجة تلوى أخرى متحدثين عنها ومحتثين فيها بالتحفظ، فإن الأمر في الحقيقة يتعلق بالحياة الشخصية للفرد، وباختياراته وأذواقه، والتي ليست موجهة ضد الغير، وإنما هي اختيار فردي حر من الذات، وإليها تشمل المأكل والملبس والإبداعات الفنية الجمالية وحرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، وليس استحسان الآخرين أو استهجانهم لحياة الغير إلا موقفا حرا كذلك، لكنه لا يتصف بأية إلزامية تجعل هؤلاء الأشخاص يخضعون في اختياراتهم المتعلقة بحياتهم الخاصة لأية وِصاية أجنبية عن ذواتهم، وهذا يتناقض كليا مع مبادىء العقل الفقهي السلفي الذي لا يرى من مهمة له إلا حمل الناس على الإنظباط والاتعاظ لفتواه ومواعظه التي يعرفها الناس ولا يجهلونها، ولكنهم لا يأبهون بها في معظمهم، لأن الحياة في عفويتها وتوبتها وانفتاحها أشمل وأكثر شساعة من أي دين من الأديان أو عقيدة من العقائد.

يفسر هذا الأسباب التي تجعل الخطاب الوعضي ينطوي على قدر غير قليل من العنف، إذ يلجأ في أحيان كثيرة إلى التعنيف الشرس والتخويف أو الترهيب، لكن أسوأ ما يقع فيه هو التحريض وزرع الكراهية وهو لا يشعر بذلك لأنه يعتقد في نُبل مهمّته وسموّها وهي هداية البشر، لكنها بمعايير ديموقراطية وقيم عصرنا اعتداء على الغير، وهذا ما لم يفهمه العديد من الدُّعاة الذين يواليهم بعض الناس ويُشايعونهم من مريديهم حيث لم ينتبهوا أن الرأي الذي يُعبَّر عنه في الخمر مثلا قد يتجاوز الوعظ والارشاد إلى التحريض على النفور من الآخر وكراهيته، هذا الآخر الذي ليس إلا مواطنين مختلفين اختاروا نمط حياة مغاير لمواعظ الشيخ وفتاواه.

هل يمكن المرور نحو الديموقراطية إذا أعدنا المجتمع إلى وضعية الحجر والرقابة الفقهية التي كانت سائدة في نظام الحسبة القديم؟ هل نحن إذا وفّرنا المأكل والملبس ومناصب شغل الناس، ثم صادرنا حرياتهم في حياتهم الشخصية، هل سنكون بلدا ديموقراطيا مستقرا؟ أم أننا سنكون قد فتحنا جبهة الصراع من أجل التحرر، ألم تقم الشيوعية بتوفير المأكل والملبس والسكن للجميع، بشكل ساوت به بين الجميع وحفضت ما اعتبرته كرامتهم؟ وظل الناس رغم ذلك يحلمون بالحرية ويقاومون من أجلها إلى أن سقطت التوتاليتارية، ألم يعمل نظام الملالي في إيران الذي اغتصب ثورة الشعب الإيراني، ألم يعمل على توفير كل الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية للشعب وساعده على ذلك وفرة أموال البترول؟ لكن الشارع الإيراني ينفجر بين الفينة والأخرى معبّرا عن سخطه بقوة مطالبا بالتغيير، وسيظل الأمر كذلك إلى أن يسقط نظام العمائم لأنه مخالف لسنة الحياة التي تقول أن جوهر الإنسان منذ كان متواجدا في الطبيعة إلى أن صار إنسان الحضارة والجماعة المنظمة جوهره هو الحرية.

يتضح من هذا أن المرور إلى الديمقراطية أمرٌ غير ممكن عبر الاقتصار على التدبير الاقتصادي الاجتماعي والسياسي فقط، بالمفهوم التقني، دون تغيير جذري في العقليات والقِيم، وهو تغيير لا يمكن أن يكون إلا تدريجيا بسبب مقاومة العقليات القديمة، لكنه تغيير حتمي لأن بذرته توجد في عمق المجتمع المتسامح والوسطي، وإن كان التطرف الديني الإخواني أو السلفي يحاول تصوير المجتمع كوحش مكشر من أجل إرهاب الغير ودفعه إلى الصمت.

إن قيم الخير موجودة في عمق كل واحد، لكن يكفي تهذيبها وتنميتها بالتربية وبالتوعية وبالارشاد اليومي حتى يعرف الفرد بأن علاقته بغيره ينبغي أن يحكمها الإحترام المتبادل.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0