يبدو أن سكان شمال افريقيا والشرق الأوسط غير راضين عن دولهم، هذا ما يدل عليه الخطاب اليومي، كما تدل عليه الموجة الثانية من الانتفاضات والتي عرفها السودان وتعرفها الجزائر.
الخطاب اليومي الإحتجاجي يتسم بقدر كبير من السخط والغضب، لكن المواطنين في نفس الوقت يبدون على العموم غير متحمسين لفكرة التغيير الجذري، إنها من المفارقات المحيرة التي يطالعنا بها واقع هذه المجتمعات، وبين الموقفين المتناقضين، تقوم السلطة بالدور الذي تتقنه في ترويض الضبط وترسيخ الوضع لضمان استمراره.
يبدو أن هذا الوضع المسدود الآفاق يتسم على العموم بالخصائص التالية:
الخاصية الأولى: عدم رغبة السلطة والفاعلين السياسيين الدائرين في فلكها في الحسم في الاختيارات والإلتزام باستراتيجية واضحة، مما يجعلهم جميعا يتكتلون من أجل توظيف التكتيك الظرفي، والتفكير في أساليب استيعاب الأوضاع عوض إيجاد الحلول الفعلية للأزمات المتلاحقة.
الخاصية الثانية: عدم قبول السلطة بوجود قوة طليعية سياسية واعتبار هذه القوة تهديدا للنظام وللنسق السياسي حيث من شأن قوة من هذا النوع أن تدفع في اتجاه تغيير قواعد اللعب، وتغيير موازن القوى، وهو ما لا يريده ذوي القرار الذين يعملون على إرغام الفاعلين السياسيين على أن يقبلوا بقواعد العمل السياسي التي في صالحهم، ويجعل هذا السلطة بين الفينة والأخرى تلجأ إلى ليّ دراع هذا الحزب أو ذاك، أو هذا التيار أو ذاك، من أجل إرجاعه إلى الخطوط المرسومة مسبقا في ظل قواعد اللعب المفروضة.
الخاصية الثالثة لهذا الوضع المتأزم، الرغبة في خلق إجماع حول السلطة دون اعتبار لحقوق الأطراف المختلفة، ودون إحداث أي تغيير في أسلوب تدمير الشأن العام وهو ما يعني إخضاع مختلف القوى باعتماد السلطوية عوض تحقيق الإجماع الفعلي المزعوم في الخطاب الرسمي، وقد أدى هذا إلى محاولة تمرد بعض القيادات السياسية باسم استقلالية القرار الحزبي، لكنها سرعان ما وجدت نفسها معزولة بسبب نقص شرعيتها هي نفسها، وبسبب تورطها في المسؤولية عن الأوضاع القائمة هي نفسها، مما يؤدي حتما إلى المزيد من تفتيت التنظيمات السياسية وتقسيمها، خاصة منها تلك التي سبق وتولت المسؤولية في حكومات سابقة.
الخاصية الرابعة: استغلال سياقات طارئة من أجل تكريس العودة إلى الوراء، يعني من أجل التراجع عن الإلتزامات المعلنة من طرف الدول، مثل استغلال التهديدات الارهابية بين الفينة والأخرى من أجل ضرب حقوق الإنسان كافة، والتضييق على المعارضين وعلى الصحافة والإعلام وهو ما يعني عدم وجود إرادة سياسية فعلية في تنفيذ تلك الإلتزامات، حيث يغلب كما أسلفنا التكتيك الظرفي على التخطيط الاستراتيجي بهذا الغرض.
الخاصية الخامسة لهذه الأوضاع: تدنّي كبير في الوعي الديموقراطي الشعبي، وهو نِتاج السياسات السابقة التي اعتمدتها أنظمة الحكم في بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط، حيث كان من أسوأ تبعات تلك السياسات ظهور نوع من الممانعة لذا المجتمع ضد القِيم الديموقراطية وإن كانت في صالحهم، وقد اعتقد الاسلاميون المحافظون بنزعتهم الإنتهازية بأنهم سيستفيدون من هذا الوضع لصالحهم، لكنهم خسروا الرهان في عدد من البلدان، حيث في غياب الوعي الديموقراطي الحقيقي لم يجدوا هم أنفسهم من يآزرهم في وقت الشدة، فكانوا ضحايا لطموحهم الشديد وعمد ثقتهم في الخيار الديموقراطي.
الخاصية السادسة: ظهور أزمة بديل حقيقية بعد تجربة سنوات ما بعد 2011، والتي كانت محبِطة بجميع المقاييس بسبب رفع سقف المطالب الديموقراطية، حيث اكتملت دورة تناوب فيها تدبير الشأن العام ليبراليون، يساريون، ثم إسلاميون دون أية نتيجة إيجباية سوى المزيد من السلطوية والتحكم مع تفاقم الأزمات، يفسر هذا لماذا يشيع يأس عام من التغيير لدى المواطنين في بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط مع تشبت أكثريتهم للسلطوية في نفس الوقت خوفا من المجهول، خاصة بعدما آلت إليه الأوضاع في بعض دول الحِراك الشعبي، ويجعلنا هذا نطرح مجددا السؤال الذي ما فتأ يطرح منذ عقود: أي مستقبل نريد لهذه الشعوب ؟
لا شك أن الأجوبة ستختلف وستتناقض بين هذا التيار وذاك وهذه الحساسية السياسية وتلك، ما يعني أننا ما زلنا بعيدين عن أخد العبرة من أخطاء الماضي، وعن الإستفادة من التجارب العالمية الناجحة المحيطة بنا والتي ما زلنا نُصر على إغلاق الأبواب والنوافذ لكي لا نراها رأي العين ولكي لا نستفيد من إيجابياتها ومكتسباته الحضارية الإنسانية.