in

رواية عالم صوفي: رواية عن تاريخ الفلسفة

رواية عالم صوفي

رواية عالم صوفي ليست مجرد رواية تحكي عن قصة معينة من أجل الاستمتاع بالقراءة أو الترفيه مع أحداث القصة، بل هي كتاب تعليمي إن صح التعبير عن ترايخ الفلسفة من بداياتها منذ عصر طاليس الذي يقال أنه أول من تنبأ بكسوف الشمس سنة 585 قبل الميلاد إلى عصرنا الحاضر، يعني قرابة ال3000 سنة.

ولا يمكننا أيضا اعتبار رواية عالم صوفي رواية تاريخية، لأن في الرواية التاريخية يعتمد فيها الروائي على حدث تاريخي معين، ويعيد صياغته على شكل قصة، كما أنه قد يفترض بعض الأحداث التاريخية التي لم تكن موجودة ويضيفها إلى الرواية من أجل تزيينها وجعلها أكثر تشويقا، وهو الأمر الذي لم نراه في رواية عالم صوفي، إذ أن الكاتب لم يعتمد على أحداث تاريخية، وإنما أعاد صياغة أساسيات تاريخ الفلسفة في قالب قصة بسيطة بين فتاة ومُعلِّمِها.



قصة رواية عالم صوفي

ما قام به الكتاب “جوستاين غاردر” هو أنه وضع هذا التاريخ ضمن قصة فتاة اسمها “صوفي” التي اقترب عيد ميلادها الخامس عشر حين توصلت بمظروف على صندوق بريدها من رجل لم تكن تعرف اسمه “ألبيرتو“، وكان المظروف يحمل سؤالين لصوفي “من أنت ؟” و “من أين جاء العالم ؟”، أسئلة قد تبدوا بديهية، لكن البداهة لم تكن لها مكانا في عقول الفلاسفة، لأن كل شيء خاضع للسؤال.

ثم تطورت علاقة صوفي مع ألبيرتو بمرور الوقت، وبعد أن تراودت عليها رسائل أخرى، متضمنة أحيانا أسئلة، وأحيانا أخرى دروسا قصيرة في الفلسفة، يشرح فيها ألبيرتو ما هي الفلسفة ومن هو أول فيلسوف نعرفه. وتحولت القصة بعد هذه الأحداث من رسائل من شخص مجهول إلى إلتقاء ألبيرتو بصوفي ليعلّمها الفلسفة بشكل صحيح، إذ كانوا ينتقلون من فيلسوف إلى آخر داخل قالب مشوق وبسيط يجعل من أي مبتدىء يفهم أساسيات الفلسفة وتاريخها وتطورها.



رواية مناسبة للمبتدئين في الفلسفة

عبقرية الكاتب جعلته يسرد تاريخ الفلسفة عن طريق قصة معلم وطفلة في الخامسة عشر، لدرجة أن الدروس التي ألقاها “ألبيرتو” لصوفي هي التي ستتعلمها لو قرأت أي كتاب في تاريخ الفلسفة، لكن وضعها بهذه الطريقة كقصة بين رجل يُعلّم الفلسفة لفتاة صغيرة السن، جعلها ممتعة ومشوقة للقارىء، لأن الحديث لم يكن فقط موجه من طرف واحد أي من ألبيرتو، وإنما كان هناك نقاش عميق بين ألبيرتو وصوفي، وهو نقاش تفاعلي بالأسئلة والاعتراضات التي تطرحها صوفي والتي قد يطرحها أي شخص منا من أجل فهم الفلسفة بشكل أكثر، وبالطبع كل هذه الأسئلة تم الإجابة عنها من قبل ألبيرتو بأمثلة من الواقع، جاعلا القارىء محبا لفكرة تعلم الفلسفة بهذه الطريقة البسيطة.

وما ساعد من جهة أخرى على شرح الفلسفة بشكل بسيط للقارىء، هو أن الكاتب أصلا أستاذ للفسلفة، وبالتالي فهو يعرف غالبا الأسئلة والاعتراضات التي قد تدور في ذهن القارىء، وقد بدأ من فلاسفة ما قبل سقراط بدئا من طاليس، سقراط، أفلاطون، وأرسطو … الخ، ثم القرون الوسطى والفلاسفة العقلانيين والتجريبيين من ديكارت، سبينواز، هيوم وكانت … الخ، بل وصل أيضا إلى ماركس، دارون، وفرويد، وسارتر الذي توفي سنة 1980، أي قبل نشر الرواية بعشر سنوات.

تعتبر رواية عالم صوفي رواية مناسبة كمدخل للمبتدئين في الفلسفة، إذ سيمر القارىء على أبرز الفلاسفة وسيتعرف على أفكارهم الأساسية والأسئلة التي كانوا يطرحونها …الخ، وقد تواجه القارىء صعوبة أحيانا في فهم بعض الأفكار، إلا أنه أمر طبيعي عدم معرفة كل شيء، وهذا أيضا ما كان يقوله سقراط، فمتى توهّم الإنسان بأنه يعرف، توقف حينها عن البحث وطرح السؤال ووقع في الجهل المركب، ولذلك فالأكثر ذكاء كما يقول المؤلف هو من يعرف أنه لا يعرف، لأن إدراكه لجهله سيدفعه للسؤال والبحث والاكتشاف.



نبذة عن بعض الأفكار في الرواية

طرح أسئلة

تُحتّم طبيعة الإنسان على محاولته لتفسير الظواهر الطبيعية، لكن الإنسان قديما كان يفسر هذه الظواهر بالخرافة والأساطير، فكانوا إذا أصابهم القحط مثلا، لجؤوا إلى تفسير ذلك بأن الجبابرة استولوا على مطرقة الآلهة المسؤولة على المطر، وكانوا يفسرون تحركات الشمس وتعاقب الفصول بآلهة أخرى مختلفة، وغيرها العديد من الأمثلة الأخرى عن مختلف الأساطير والخرافات. فجاء الفلاسفة بدئا من طاليس نحو 600 سنة قبل الميلاد وبحثوا عن أسباب طبيعية لهذه الظواهر الطبيعية، وهو السبب الذي يطلق به على هؤلاء الفلاسفة باسم الفلاسفة الطبيعيون.

قد يلاحظ القارىء أثناء قراءة رواية عالم صوفي أن الفلسفة كانت تتعلق بمسائل ماورائية أو غيبية كالآلهة والأرواح، أو متعلقة بالسلوك والأخلاق فقط، لكن الفلسفة في الحقيقة كانت تشمل حتى العلوم الطبيعية، ورغم أن العلوم الطبيعية اليوم استقلت بنفسها وخرجت من إطار الفلسفة، إلا أن الفلاسفة الأوائل شكّلوا نقلة توعوية في تصور العقل البشري الذي كان يعتمد بصورة أساسية على الأساطير والخرافات في تفسير الظواهر الطبيعية.

المذاهب الفلسفية

من بين الأشياء الأساسية الأخرى التي ركزت عليها الرواية والتي أَطْرت في القارىء رغبة في طرح تساؤلات وهي “مصدر المعرفة”، والمقصود بها المصدر الذي يعتمد عليه الفلاسفة في تفسير الأشياء من حولهم، فمثلا مصدر معرفة أن الأرض موجودة وأنك أنت موجود هو الحواس، بينما مصدر معرفة أن 1+1 = 2 هو العقل. وهنا يختلف العديد من الفلاسفة في مصدر المعرفة، فمنهم من يعتمد فقط على الحواس كالفلاسفة الطبيعيين، ومنهم من يُكذّب الحواس لأن الطبيعة تتغير، ويرى أن العقل فقط هو مصدر كل معرفة، ويطلق على هذا المذهب “المذهب العقلاني”، بينما يطلق على هؤلاء الفلاسفة، الفلافسة العقلانيين.

كان الفلاسفة الطبيعيون يؤمنون بوجود مادة أولية كان لها السبب في نشأة العالم والكون بأكلمه، وكانوا يعتقدون أن هذه المادة أزلية، معتمدين على ذلك بحواسهم، وبمنطق أن المادة أزلية لأنها لو لم تكن كذلك فسنظل في حلقة دائمة التسائل عن أصل هذه المادة إلى مالانهاية من الأسئلة، بينما لو كانت هذه المادة أزلية ـ أي لا بداية لها ـ فيسفقد سؤال “ما أصل هذه المادة ؟” معناه، لأنها لم تكن يوما معدومة ثم ظهرت فجأة، بل كانت دائما موجودة.

من جهة أخرى، كان الفلاسفة العقلانيون يقولون عكس ذلك، فقد كان الفيلسوس بارمينيدس مثلا يقول “أنا أثق بالعقل، والعقل له أولوية عندي على الحواس، وبما أن عقلي يرفض أن تتحول المادة بنفسها وتتخد شكلا آخر، اذن فلا شيء في الطبيعة يتحول“، ورغم أن الطبيعة من حوله تتحول إلا أنه ـ كما سبق وقلنا على الفلاسفة العقلانيين ـ يكذب الحواس ويعتمد فقط على العقل.

ظل سؤال مصدر المعرفة مطروحا حتى لما نصل إلى ديكارت، وهيوم وكانت .. بعد عصر النهضة في القرن 17، فديكارت مثلا من الفلاسفة العقلانيين، كان في منجهه يُشكِّك في كل شيء حتى في الحواس، وقال أن الحواس قد تخدعنا، فأنت قد ترى في حلمك أشياء وعندما تستيقظ تكتشف أنها كانت مجرد حلم، فمالذي اذن يضمن لي أنني لست في حلم الآن ؟ بينما الفلاسفة التجريبيين كهيوم وأرسطو كانوا يعتقدون بأن وعينا بالأشياء لا يتكون إلا من خلال التجربة، وما من شيء ينكر أن يوجد في الوعي قبل أن يدرك بواسطة الحواس، فلا نستطيع مثلا أن نتخيل أي فكرة إلا ولها تجربة في عالمنا.



خلاصة

نحن لانعيش عصرنا فقط، إننا نحمل تاريخنا كله في ذواتنا.

المؤلف

طبعا أغلبية هذه الأفكار والمناهج قد تم نقدها اليوم وتجازوها العلم بعدة مراحل، إلا أنها كانت مهمة وضرورية لتطور العقل البشري، وعلى القارىء حين قراءة أي كتاب قديم سواء في الفلسفة أو التاريخ، أن يضع بعين الاعتبار السياق التاريخي للفيلسوف وأفكاره، فقد يجد القارىء أحيانا أفكارا غريبة وسيستغرب كيف كان الناس حينها يصدقون هذه الأفكار التي لم تعد تُطرح اليوم. وفي ذات السياق، يجب على القارىء أن يدرك أن هذه الأفكار كانت بمثابة نقلة فكرية في ذلك الوقت، ومن يدري، ربما أفكارنا اليوم هي مجرد نقلة فكرية أخرى يسخر منها أناس المستقبل كما قال هيجل.

Avatar for فكر حر

كُتب بواسطة فكر حر

التعليقات

اترك تعليقاً

Avatar for فكر حر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Loading…

0